أيها القمرهاأنذا أكتبُ الآن ، وكنت كلما كتبت يحضرني شوق لم يرحم بقايا قلب مزقه الفراق ، ويحضرني زمان جميل ولىّ ولم يعد تاركًا فراغًا بحجم هذا الكون ، لكنني الآن أكتب في ظروف أخرى زادت قسوة وجفاء ، زادت أيها القمر ، فقد جاء دور الصبر ، و ها هو قد أعلن التمرد عليّ ، ملَّ مني ، ولم يحفظ "عشرة" السنين التي جمعتنا معًا ، "على الحلوة والمرة" ، فتركني حتى أنه لم يودعني ، ولا أخفيك أيها القمر فلقد رأيته يبتسم وهو يبتعد عني ، رأيت في عيونه ما كنتُ أراه في عيون أعدائي ، ترى ماذا تفعل العين عندما يموت الحياء عند من كنت تظن فيه الوفاء أيها القمر ..
ها أنذا أكتب آخر ما تبقى في جعبتي ، فالتمس لي العذر أيها القمر ، إنْ كنت سأغرد خارج السرب كما لم أفعل من قبل ، إنْ كنتُ سأكتب عمن أحب وعما أكره ، ففي قلبي حبٌّ لن تتخيله ، وفي عقلي كرهٌ لن تصدقه ، لذلك سأكتب عنهم جميعًا ، فلا تعتب عليّ ، فكن أنت العاقل ودعني أكون أنا المجنون ، وأنا أعفيك من تبعات جنوني ، فمن حاله حالي يحق له أن يكون كما هو الآن ، فقد ذهب عقلي من طول الانتظار خلف طابور المعجبين بهذا الموت السريري الذي نرقد عليه ، و خلف جدار الصمت هذا ، واقف أنا منذ ألف عام ونيف ، وما زلت أنتظر على قارعة الطريق ، وظلي يلحُ عليّ يصرخُ فيّ "لم أعد قادرًا على التحمل" يصرخُ بي كل عالمي ، وأنا أنزف ، وما زلتُ أدّعي الصمود وهذا الصبر قد تخلى عني ، ماذا أقول لك أيها القمر ، أتدري أن طائر الفينيق كان كذبة كبيرة ، أتعلمُ أن سيزيف وجدته ذات مساء في حارة البؤساء يبكي على قارعة الطريق ، وقد وصل لتوه من رحلته المجنونة ، فأشاح بوجهه عني ، وعاد حيثُ كان ، غيرَ أني لم أبكِ مثله ، فأنا لا أعرف البكاء ، فقد تعلمتُ أنه لا يجوز بحق الرجال ، ترى متى يبكي الرجال أيها القمر ؟
أنا أحب وأنا أكره وها هو عالمي يحتضر أمامي ، يتمزق إلى أشلاء ، وها هو الدمار يحيط بنا ، وكل الذين أحببناهم رحلوا أيها القمر ، رحلوا بدون وداع ، تاركين بقايا دمعة لن تجفّ ، بقيت لتذكرنا بفضيحتنا وبعجزنا عن تأليف قصيدة تليق بحبات تراب ماتوا من أجلها ، وما زلنا نلهثُ خلفَ بقايا رغيف ملوث بالدماء ، أيها القمر قل للقمح أنني لم أعد جائعًا إلا من حنيني لمن ذهبوا ولن يعودوا ، فلينبت أو لا ينبت أيها القمر.
أنا أحب وأنا أكره ، فماذا سأقول لمن أكره ، وماذا سأقول لمن أحب ، هل يكفي الكلام ، هل تكفي الشعارات ، تعبت أيها القمر ، نالت مني السنيين العجاف ، وتكالبت عليّ المحن من كل حدب وصوب ، وبتُّ أتنفس من ثقب إبرة ، وكاد اليأس يدرك قافلتي المتعبة ، وهذا الظلام قد طال فماذا ستقول أيها القمر إنْ سقط مني الحب وبقي معي الكره ودخلت أنفاق الظلام ، ولم أعد أفرق بين الحلال والحرام ، ماذا ستقول أيها القمر ، إنْ لم تدركني رحمة الله ، فأموت قبل أن يدركني عدو نفسي ، ماذا ستقول عني وعن تاريخي كله ، ماذا ستقول أيها القمر ؟
أنا أكره ، نعم أيها القمر ، أكره كل القائمين على هذا الذي يدعي أنه "العالم الحر" ، الذي دمر كياننا وتآمر علينا وسلبنا حرياتنا ، أكره كل الذين تخلوا عن أوطاننا ، أكره كل الخونة والعملاء ولا ألتمس لهم عذرًا ، أكرههم جميعًا ، فماذا أفعل كي أتخلص من كرهي ، وهم من أوصلني إلى هذا الحال ، وهل أنا مذنب أيها القمر ؟ وهل يلام المكره ؟
أنا أحب وأنتَ صديقي وتعرفُ ذلك أيها القمر ، أحب كل البشر ، و أحبها هي بالذات ، وأنتَ تعرفُ أنني أحبها كما لم يحب أحدٌ من قبل ، غيرَ أني أجدُ نفسي مجحفًا بحقها ، فقد كان بوسعي أنْ أحبها أكثر ، فمن أجلها كنتُ أرى العالم كله جميلاً ، ومن أجلها كنتُ أرى الأمل قادمًا لا محالة على حصانٍ أبيض ، لكن الكره لم يترك لي مجالاً لأحب كما يحب باقي البشر ، سلبوا منا كل مقومات الحياة ، لكنني ما زلت أحب ، ويخففُ عني أنني أعلم أنها تعلم أني أحبها ، وأنا مشتاق لها فهلا أخبرتها أيها القمر ؟
أنا أحب وأنا أكره ، فقل لهم أيها القمر ، قل للحب أن يخبرهم كم أحبهم ، وقل للكره أن يخبرهم كم تمنيت لو لم أرَهُمْ ، وقل للصبر أن يعود فأنا لا أستطيع العيش بدونه ، وقل للأمل أنني ما زلت بانتظاره ، وقل للماضي أنني لن أستطيع النسيان ، وقل للحاضر أنني لم أعد أشعر بالألم ، وقل للمستقبل أن يرفق بي وأن يدعني أنام ولو قليلاً .