ومن السيّارة اتّصلت بالخادمة، أعلمتها بأنّها سوف لن تتناول الغداء في البيت. انسابت السيّارة عبر شوارع ومعابر بغداد العريضة. اكتظّت سماء المدينة بآلاف الأعلام، وكذلك بسعف النخيل يرفرف على جنبات الشوارع، وحول الساحات. كانت الإستعدادت لإحياء ذكرى التحرير تجري على قدم وساق. غادرت رندة طريق المطار، متّجهة شمالا نحو الفلوجة. ضغطت بإبهامها على أحد أزرار جهاز التحكّم المثبت على المقود، فانطلقت نغمات "فصول فيفالدي"، سرت عبر كيانها نشوة تتخلّلها بعض كآبة.. سعادة مزيجها الحنين.
قبيل الفلوجة، غادرت الطريق السيّارة، متّجهة إلى مدينة الشهداء. تلقّتها الأعلام من جديد، وسعف النّخيل تداعبه النّسمات، فيُجيب بحفيف جميل. امتدّت أمام ناظريها مدينة مسجّاة من القبور.. بحر من الخضرة تطفو على امواجه زوارق ذات أشرعة بيضاء، بلا حدّ.. مقبرة الشهداء.. تتخلّلها الممرّات والسّاحات والنّصب التّذكاريّة.. ونخيل، بعدد الشهداء..
اعتادت رندة على زيارة المكان مرّة في الأسبوع.. عقود ثلاثة مرّت، لم تتخلّف خلالها عن هذا الموعد أبدا. وفي كلّ مرّة تؤدّي الطقوس نفسها، بانتظامِ ودقّةِ ساعةٍ سويسرية. تركن سيّارتها في المأوى الخارجي، تتّجه نحو واحد من الأكشاك العديدة لبائعي الزّهور، نفس الكشك، تجامل صاحبه، العمّ عبد الجوّاد، ببعض الكلمات. في البدء، كانت تسأله عن الأحوال، وعن الزوجة والأولاد، والآن، عن الأحفاد. يقدّم لها ورداتها الثلاث، تودّعه متّجهة إلى بوابة المقبرة، تقف عندها برهة، ترفع عينيها صوب الواجهة العليا لقوس النصر الضخم، لتقرأ حروفا نُقشت بخطّ كوفيّ جميل على الرخام الأبيض: "ولا تَحسبَنَّ الَّذينَ قُتِلوا فِي سَبيلِ الله أمواتا، بَلْ هُمْ أَحيَاء عندَ ربّهِمْ يُرْزَقُون".
تخطو ببطءٍ عبر الممرّات المُظَلَّلة بخضرة النّخيل الدّافئة. تجلسُ بعض الوقت عند قبري والدها وأخيها في مناجاة صامتة. تسقي الزهرات المحيطة بالقبرين، تودّعهما، تاركة فوق كلّ واحد منهما وردة. تتّجه بعد ذلك، عبر ممرّات المدينة النّائمة نحو مربّع ضخم، كُتب على بوّابته المزخرفة بالخزف المغربي الجميل: "شهداء إقليم المغرب العربي". بالدّاخل، توزّعت القبور بحسب ولايات أصحابها. تتوقّف رندة برهة عند المدخل، ثم تخطو من جديد ببطءٍ وتؤدةٍ، تستجمع ذكرياتها.. هاهي الآن تمشي عبر ممرّات حديقة فيلاّ بورقيزي، في روما، تجلس على المقعد الخشبي الأخضر، تظلّله شجرة لا عمر لها، تكاد أغصانها تدغدغ الأشعّة المتراقصة بزهو على سطح البحيرة. صوت يأتي من عمق الذاكرة.. تعرفه:
"- هل.. هل أنتِ عربيّة؟
- نعم! وهل يخفى هذا؟
- أنا أيضا عربيّ..
.................
- الظّاهر أنّي أزعجتكِ... إذا أردتِ أن أذهب، فسأفعلُ ذلك؟
- هذا شأنك!........ لستَ بمُزعجي.."
يتلو الصوت، وسط عبق من الياسمين تحمله النسمات الدافئة:
"يا قاتلتي بكرامة خنجرك العربيّ!
أهاجر في القفر،
وخنجرك الفضّي بقلبي،
وأنادي:
عشقتني بالخنجر والهجر بلادي
ألقيتُ مفاتيحي في دجلة أيّام الوجد
وما عاد هنالك في الغربة
مفتاح يفتحني
ها أنذا أتكلّم من قفلي..."
(انتهت)