كرات ثلج ..
كانت ليلة مدبلجة البرودة ظنتها فإذا هي وارثة لمسرحية التجمد ، ملبدة الغيوم ضفافها ، والصقيع على الشوارع كأنه زجاج قد زمهرير ، انكمشت الأشجار في غابة تفكيري وتشابكت أغصانها العارية تتلمس الدفء متحدية هبات الريح ، حتى القطط والكلاب السائمة من لفح سياط دربي رأيتها تأوي إلى كهوف ذاتها ، لاذت إلى مخابئ تحتمي بها من البرد العاري إلا من مزق الأجساد، فلم يعد يسمع لها مواء ولا عواء ..إلا من ضل الروح وتاه بين صقيع حال وبرودة زنازين .
أيقظني بريق لمع في عيني ،أو أنا من أيقظته لا فرق بين ذاك وهذا إلا بالتي هي أبلى هزة ، ودويّ كأنه انفجار قنبلة تقصم الذرية البشرية أو تلغي هوية الإنسان إلا من أخبار جهينة ، أفزعني من نومي ..خبر الثلج .، فلقد تأخر وصوله هذا العام .
تململت في فراشي أو دفئه تململت ، الدفء أصاب جسدي بالخدر والنوم ما زال يثقل جفني ليبقيا على حالة انسدال ، ألست أحلم ؟ ومازال بالحلم بقية ؟ ، قطعته علي تلك الفزعة التي أيقظتني ، وكأن الرقابة قد قطعت منه جزءا ، هل يحرم علينا الحلم ؟ ربما ،لا ، لا يجب أن أنعم به حتى في أحلامي ، فأرسلت البرق والرعد ليوقف عرض الحلم قسرا ، فلم أنعم بتناول قطعة اللحم التي اقتطعتها يدي من خاروف حالم مثلي في بردة صوفه ، وضع في طبق كبير وحوله الأرز المغطى بالمكسرات ، في مأدبة لا أدري من الكريم الذي دعاني إليها ، وما همني أن تذكرت الداعي أو لم أتذكره ، فلن أرد له الدعوة في حلم يراوده ،
مرة أخرى لمع البرق فأنار جدران حجرتي بنور لامع أبيض ، وتراقصت دلافين مدلاة من الضوء المثبت بالسقف ، وكأنها تسبح في قعر محيط دافئة مياهه ، لا يكدر صفوها برد ولا رعد ، ولا مطر أو ثلوج
تأخرت ..
حبات البَرَدْ كانت تطرق النافذة وكأنها تدعوني لرؤية حمام الأرض كعروس في ليلة جلوتها ، وقطرات المطر تنزلق على نافذتي كدموع الصبايا الحزينة ، وقد تأخر النصيب في طرق بابها ، والشتاء ببرده وأمطاره وثلوجه ، مثيرٌ للشجون والإحساس بالفراغ العاطفي ، والحاجة لمن يؤنس الوحدة ويملأ الحياة دفئا ، لكن النصيب يمر من أمام الباب ، ويتخطاه وكأنه قد أصيب بالعمى أو لم ينتبه للواقفة هناك تتنتظرالفارس الذي يخطف قلبها ويحملها لو سيرا على النبضات ..
هدأت ثورة الطبيعة ، وقد هرب مني النوم ، وتسلل الملل إلى نفسي ، وبدأت أمعائي بثورتها بالتلوي من أثر الجوع ، فقد اختصرت الوجبات الرئيسية إلى وجبة واحدة تمشيا مع الوضع الإقتصادي الجديد ،وأسرفت بالحلم أليست الأحلام رخيصة ؟ والذي قضى على كل ما أملك وما يمكن أن أمتلكه في الأيام المقبلة نوبة الثلج التي لم تأت بعد ، ولكي أزود المنزل بما يلزمه في مثل هذه الأيام من بقول وخبز وكل ما يمكن الاحتفاظ به لوقت طويل ، فلا أحد يأمن متى ترتفع الأسعار مرة أخرى ..والحلم مازال في متناول عيني ، والثلج مصلوب على نافذة انتظاري .
مددت يدي، أشعلت النور ..
ـ الكهرباء مقطوعة ؟؟!!
ـ تبا لشركة الكهرباء ،، كوابل قديمة مهترئة ما عادت تحتمل مثل هذه الأجواء ، فما تكاد تلتمع السماء ببرق إلا وينقطع التيار ..
هه توفر علينا الإسراف في هدر الطاقة ، حتى ننام باكرا فلا نضيع الصلاة ولا نتأخرعن مواعيد العمل ..
بحذر نهضت من سريري ، أتلمس دربي ملبيا نداء الطبيعة ، فهذا ما لا أستطيع رده ، ولا الصبر عليه ، بمشقة وصلت إلى دار الخلاء ، وهنا بدات الطامة ....
تجمدت المياه في الصنابير ، بت أتخبط في هذه العتمة ناقما على الثلج والبرد والحكومة وشركة الكهرباء وكل الحياة .. ونقمتي على الثلج أشد من تأخره علينا ، فهو المتهم حاضرا كان أم غائبا .
مع تسلل ضوء النهار الباهت من خلال الغيوم السوداء الكثيفة ، وبعد ليلة مضنية شديدة البرودة والعتمة ، حاولت النهوض وتناول كوب من الشاي الساخن ، عل الدفء يسري في أوصالي التي شلها الصقيع ، ما إن قطعت الردهة الصغيرة ، إلى المطبخ وأنا أرتجف من رأسي إلى أخمص قدمي ، وأسناني تصطك ببعضها حتى كاد فكي يتشنج بشد عضلي ، أخذت بعض الماء من زجاجة استخدمها لحفظ مياه الشرب ، وضعتها على الموقد ، حاولت إشعاله علي أحظى ببعض الدفء إلى حين تغلي المياه من شعلته الصغيرة ، وتذكرت أنه لا يشتعل إلا بالكهرباء ، حينها أسقط في يدي ، فلا مفر من الاستغناء حتى عن كوب الشاي في هذا اليوم الذي لا أدري كيف سينتهي بي وقد سدت الثلوج الطرقات ، ولا مجال حتى للخروج .. ألست أحلم ؟
نظرت لمدفأة الغاز القابعة في زاوية الحجرة وكأني بها تنظر إلي شامتة بعد أن استغنيت عن خدماتها ، فقد باتت بلا فائدة بعد أن ارتفعت أسعار المحروقات لثلاثة أضعاف ، وما عاد باستطاعتي تحمل مصاريفها وقد ارتفعت أسعار كل السلع ضرورية كانت أم كمالية صارت ، فما أن يأتي منتصف الشهر إلا وأنا على وجه الكريم ..
حتى رغيف الخبز المغشوش ارتفع سعره .. الحمدلله على العزوبية ، كيف لو كان هناك عائلة ... ، وأنا بت لا أملك إعالة نفسي ، صرت ألجأ للنوم المبكر كنوع من التقشف وشد الحزام على البطن ، أتدثر بالأغطية والملابس الثقيلة لأنعم بقليل من الدفء ..
عدت لدولاب ملابسي ، استخرج ما أستطيع أن ازيده من ملابس تقيني هذا الصقيع الذي معه انقطعت كل السبل في اكتساب ما يعيد لجسدي حرارته ، حتى القليل من الماء فقط لغسل وجهي ، و وقفت أنظرمن خلال النافذه ، على ماء السماء المتجمد على الأرض والأشجار كاسيا المباني المجاورة ..
لمحت صبية صغارا يلهون في مرح يتقاذفون كرات الثلج ، لا يحملون من هم الحياة شيئا ، ولا يعبأون ببرد ولا بصقيع ..
وعند الركن المجاور لسور بيتي وقف بعض عمال أشعلوا نيرانا بقطع خشب كانت سقفا لحجرة بنيت من اللبن سكنا لهم ، انهارت من ثقل الثلج ، كانوا قد التفوا حولها وهم يضحكون ويقذفون الصغار بكرات الثلج يشاركونهم متعتهم ، و براد شاي يغلي وتتصاعد أبخرته وقد أسند على قطع من الطوب أحاطت بتلك النار ..
فقط فتحت الباب ، وخرجت لأتلقى قذائف الأيدي الصغيرة أغسل بها أثر حلم قاس ..