كيف حاربت المؤسسة الدينية روحية التساؤل؟
د. أحمد خيري العمري
--------------------------------------------------------------------------------
في صراعها من اجل البقاء تروج المؤسسة الدينية التقليدية ان الاسئلة تؤدي الى الالحاد والشيوعية والدرك الاسفل من النار – والحقيقة ان الغيرة التي تفتعلها المؤسسة على اسئلة الاطفال حول الجنة والنار والله والخلق هي غيرة مصطنعة ، وما يخيف المؤسسة حقاً هو ان يكتشف هؤلاء الصغار بعد ان يكبروا ان هناك اجوبة اخرى غير الاجوبة التي القموا بها عندما سألوا للمرة الاولى . اجوبة مبدعة : اجوبة محرضة للخيال غير تلك الاجوبة التي اسكتوا بها للمرة الاولى …
تخاف المؤسسة من ان يكتشف هؤلاء الصغار ( بعد ان يكبروا ) ان هناك طريقاً اخراً للايمان لا يمر عبر اجوبتها التقليدية . وان الاجوبة ليست حقاً كما توهموا اما ملحدة وجديدة او مؤمنة وتقليدية ، وانما هناك ايماناً من نوع اخر غير ذاك الذي يروجه وعاظ المؤسسة .ايمان ايجابي . ايمان فاعل غير ايمان الخدر والخرافة الذي يتقنه العواجيز والدراويش ومتسولو المساجد .
تخاف المؤسسة ان ياتي يوم ويستعمل هؤلاء الصغار لغة اخرى – اكثر معاصرة وحداثة – في ابتكار الاجوبة . لغة اخرى غير لغة " البعرة والبعير " التي لا تزال تستخدم في عصر الثورة المعلوماتية والاستنسال البشري .
واذا كانت المؤسسة تستطيع ان تدبر امورها – ولو بكثير من الصعوبة – مع اسلوب البعرة والبعير – والتي كانت هي الاخرى نتاج فكر مبدع في وقتها – فانها تخشى اكثر ما تخشاه ان ياتي يوم وتسال فيه اسئلة لا جواب لها في كتب الاولين ومذاهبهم . اسئلة لم تطرح على ابي حنيفة فيجيب عنها بثلاثة او اربعة اجوبة . ولم يُسأل عنها ابن تيمية فيجيب عنها كل سؤال بمجلد او اثنين …
تلك الاسئلة التي تطرح ضمن معطيات جديدة – تاريخية واقتصادية واجتماعية وعلمية يشهدها عصرنا الحالي – ستكشف جهل المؤسسة وتسطحها وعدم قدرتها على مواجهة الاسئلة الجديدة، تلك الاسئلة هي التي تخيف المؤسسة وتثير رعبها-
لذلك تثير المؤسسة اسلوباً قديماً جداً في مواجهتها للامر. نفس الاسلوب الذي اتبعته الكنيسة في العصور الوسطى وتتبعه كل المؤسسات الاجتماعية التقليدية في مواجهة الفكر الحي المتجدد .
هذا الاسلوب هو محاربة السؤال اصلاً ومنذ البداية ، والباب الذي يأتي منه الريح تغلقه المؤسسة لتستريح .
لكن كيف استطاعت المؤسسة – وهي تحارب السؤال – ان تتعايش مع عناصر التساؤل وروحيته المبثوثة عبر القران الكريم والسنة ؟ .
كيف استطاعت ، وهي تغلق باب التسآؤلات : ان تغض البصر عن الاسئلة الابراهيمية – بداية الايمان الاسلامي – وعن الشك الذي اوصل لطمانينة القلب – الشك الذي نحن احق من ابراهيم به … وعن … وعن …
كيف ؟ .
بالنسبة لمفاهيم المؤسسة ، كان التعايش مستحيلاً بينها وبين تلك الايات البينات من الخطاب القراني – من سورة الانعام ( وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين . فلما جن عليه الليل راى كوكبا قال هذا ربي فلما اقل قال لا احب الافلين . فلما راى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما اقل قال ائن لهم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين . فلما راى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر فلما افلت قال ياقوم اني برىء مما تشركون ) الانعام 75 – 78 .
انها ليلة الحيرة والتقلبات . ليلة القلق الانساني والبعث الانساني . ليلة غيرت مجرى التاريخ ، ومهدت لنبوة رجل سيصير اباً للامم – واباً روحياً للاديان السماوية الثلاثة .
والايات واضحة ، لاتحتاج الى تعليق : ابراهيم يبحث في الطبيعة – عن خالقها . ويرفض – بعقله – بعض الظواهر ( مثل الشمس والقمر والزهرة ) والتي جسمها قومه في اصنام يعبدونها … ما هي دوافعه في البحث ، الفطرة ؟ العقل ؟ . ربما المهم انه يسأل ويبحث ويرفض ويقبل قبل ان ينزل عليه الوحي ، مما يجعل التربة مهيئة وممهدة لنزول الرسالة وتقبلها …
البحث الابراهيمي والتساؤلات الابراهيمية والحيرة الابراهيمية واضحة في سياق الايات :- لا احب الافلين – لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين …
لكن المؤسسة تأبى الا ان تغير هذا الوضوح وتغبشه وتخرج الايات عن معناها ، مقصدها ومغزاها …
ولو اخذنا ثلاثاً من التفسيرات المعتمدة عند اهل السنة ( الطبري ت 310 ، ابن كثيرٌ 774 ، القرطبي ت671 ) وهي التفسيرات التي لا تزال تمارس دورها التأسيسي حتى الان – وتابعناها في هذه الايات فماذا سنجد ؟
ينقل الطبري وهو صاحب اقدم تفسير من ضمن هذه – عدة اقوال ، ولكنه كان منحازاً للقول الذي ياخذ الايات على ظاهرها – ( ان من الصواب الاقرار بخبر الله تعالى الذي اخبر به والأعراض عما عداه ) – مستنداً في ذلك الى رواية عن ابن عباس ، ولكنه يورد اقوال قوم انكروا ( ان ابراهيم قال للكوكب او للقمر هذا ربي وقالوا غير جائز ان يكون لله نبي ابتعثه بالرسالة اتى عليه وقت من الاوقات وهو بالغ الا وهو لله موحد وبه عارف ومن كل ما يعبد من دونه برىء . قالوا ولو جاز ان يكون قد اتى عليه بعض الاوقات هو به كافر لم يجز ان يختصه بالرسالة لانه لا معنى فيه الا وفي غيره من اهل الكفر به وليس بين الله وبين احد من خلقه مناسبة فيحابيه باختصاصه بالكرامة (…) وزعموا ان خبر الله عن قول ابراهيم عند رؤيته الكوكب او القمر او الشمس هذا ربي لم يكن لجهله بان ذلك غير جائر وانما قال ذلك على وجه الانكار منه ان يكون ذلك ربه وعلى العيب لقومه (…..) وينقل كذلك قولهم ان ذلك كان في حالة الطفولة وقبل قيام الحجة عليه (…..) وقال اخرون انه قال اهذا ربي على سبيل الانكار والتوبيخ أي ليس هذا ربي ، وقالوا تفعل العرب مثل ذلك فتحذف الالف التي تدل على الاستفهام … الطبري الجزء 7 / 249 .
هناك عدة ملاحظات على تفسير الطبري :
1 . فرغم ان الطبري يفضل ( التوقف ) في هذه الايات و اخذها على ظاهرها – الا ان هذا ( التوقف) ليس ايجابياً الا عند مقارنته بالتفسيرات الباقية التي تنكر النظر الإبراهيمي – لكنه من جهه اخرى يعامل الآيات كما لو كانت تخوض في الصفات الإلهية او الآيات المتشابهة – فيقبلها بتحفظ على ظاهرها دون الغوص في معانيها …
2 . ان إيراده للآراء الأخرى التي ينكرها يدل على وجود صراع بين تيارين واضحي المعالم على المساحة : التيار اللاعقلاني الذي يعدد آراءً مختلفة مستخدماً أساليب البيان والبلاغة لترسيخ أفكاره والتيار العقلاني الذي يمثله هنا الطبري على استحياء فيتحفظ ويتوقف ويختصر في توضيح موقفه .. وهذا الاستحياء والتحفظ و(التوقف) لا يوحي ابداً ان الصراع كان يسير لصالح التيار العقلاني خصوصاً في ظل تعدد اراء التيار العقلاني .
3 . ومقارنة (توقف) الطبري بتفسيرات القرطبي وابن كثير المنتمين لفترة زمنية متأخرة (القرن السابع والثامن على التوالي ) ستوضح لنا نتيجة الصراع بين هذين التيارين وهي نتيجة معروفة سلفاً لكن المضحك في الأمر ان التفسير الأكثر انتشاراً اليوم هو التفسير المنتمي لاشد عصور الانحطاط ظلاماً وابعدها عن الموقف (المتوقف) للطبري.
* * *
يأخذ القرطبي (المتوفي سنة 618هـ) التأويل الذي يفسر السياق على انه مناظرة بين إبراهيم وقومه (ج11 ص301) – كما يؤيد كون (هذا ربي) تفيد الاستفهام مع تقدير الألف المحذوفة وينقل عن الزجاج انه قال (قصد من قوله) هذا ربي على قولكم- في مناظرة- ، باعتبار ان الله تعإلى اخبر عنه (واجنبني وبني ان نعبد الأصنام ) (وإذا جاء ربه بقلبي سليم ) أي لم يشك به قط (…) ولما خرج إبراهيم من السرب (الكهف) رأى ضوء الكوكب وهو طالب لربه فظن انه ضوءه (ضوء الله) قال هذا ربي بأنه يتراءى لي نوره ، فلما أفل علم انه ليس بربه – وكذا مع القمر والشمس ، مرجحاً الاستفهام كتفسير لقوله هذا ربه بتقدير : أهذا ربي ؟ او امثل هذا يكون ربي ؟ القرطبي ج5 ص285.
أما ابن كثير المتوفي (748) فقد نقل اختلاف التفسيرات (هل هو مقام نظر ام مناظرة .. والحق ان إبراهيم كان في هذا المقام مناظراً لقومه مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام … وكيف يجوز ان يكون إبراهيم ناظراً في هذا المقام وهو الذي قال الله في حقه (ولقد أتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين…) (ابن كثير ج2 ص152) .
* * *
وهكذا حسم الموقف! والأربعة قرون التي تفصل بين توقف الطبري المتردد وحسم ابن كثير ولهجته الواثقة هي القرون التي انحدرت فيها الحضارة الإسلامية وثقافتها إلى درك عصور الانحطاط التي ضاعت مفرداتها بين تشدد لفظي مقيت وشطحات صوفية بعيدة وهذا المثال عن تفسير آية محددة هو من سبيل المثال لا الحصر – وقد يحتاج الموضوع إلى دراسة منفصلة : اختلاف التفسيرات عبر القرون وتأثر ذلك بالمناخ الفكري الاجتماعي السياسي السائد.
ولعله مما يلفت النظر إعراض القرطبي وابن كثير لرواية ابن عباس والتي استند عليها الطبري في تفسيره المؤيد لموضوع نظر إبراهيم وبحثه في الكون واعتمادهم على آيات قرآنية من سياقات أخرى لتجيير الموضوع وتأويله بأتجاه المناظرة .
فالآيات التي استند عليها القرطبي في تفسيره مجتزءة عن سياقها التاريخي و عن معناها اللفظي، فدعاء ابراهيم ( ..و اجنبني و بني ان نعبد الاصنام) ينتمي لفترة زمنية لاحقة أثناء بنائه للكعبة و(آتى الله بقلب سليم ) لا تعني قط انه لم (يبحث) ولم (يتساءل ) خاصة وان (آتى الله) الواردة بنص الآية تشير إلى انه هو الذي (اهتدى) إلى ربه قبل الوحي بالضبط كما ان قوله (هذا ربي) لا يعني الشرك هذا اذا افترضنا ان (سليم) تعني لم يشرك به قط..
وكذلك بالنسبة للآية التي اختارها ابن كثير في تفسيره (ولقد اتينا إبراهيم رشده من قبل) .. لا تعني قط انه لم يبحث وان تساؤلاته وحواره لم يحصل الا على سبيل المناظرة مع قومه كما يحاول ابن كثير ان يرسخ في أذهاننا بل على العكس و(تأتيان الرشد من قبل) يوحي بأن إبراهيم كان راشداً قبل الوحي وهذا الراشد لم يتأت الا بالبحث والتساؤلات.
ولعل هذه الطعنات والملاحظات على اختيار مثل هذه الآيات واختزاءها من سياقها لا تخفى على مفسرين فطنين مثل القرطبي وابن كثير ولكنهما كان يكرسان موقفاً كانت قد قد حسمته المؤسسة منذ زمن . وكانا يدفعان وبشدة (تهمة) التساؤلات العقلية عن إبراهيم لانهما يدافعان عن مفردات ثقافية لا عقلانية استطاعت خلال هذه القرون ان تؤصل نفسها وتبتني لنفسها جذوراً وقواعداً متخفية بتأويلات وتفسيرات معينة لآيات قرآنية وأحاديث شريفة وليست مسألة التساؤلات الإبراهيمية هنا سوى قمة صغيرة مرئية لجبل هائل غاطس في الماء .
* * *
سيقال : وما أهمية ذلك حقاً ؟ يختلف المفسرون في مواضيع عديدة وعلى عادتهم سيقولون ان الخلاف ليس في اصل من أصول العقيدة وبالتالي فالموضوع (خلافي) ويقدر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه … الخ.
هذا طبعاً إذا نظرنا نظرة سطحية تجزأ السياقات والنصوص والمفاهيم من زمانها وتأريخها وواقعها الاجتماعي السياسي والثقافي ..
ولكن ان يكون إيمان إبراهيم الأب الروحي للأديان الثلاثة وخاصة ديننا والجد القبلي للأمم الكتابية ان يكون أيمانه الذي هو الجذر الأصيل للايمان الإسلامي مجرد موضوعاً خلافياً مسألة فيها نظرة (اذا سمحتم) .
ففرق كبير بين ان ينتمي إيماننا لرجل بحث واحتار وسأل ونظر في الكون إلى تلك النتيجة (أني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما انا من المشركين) الأنعام 79 التي مهدت لنزول الوحي على عقل لماح شمولي ومتفتح …
وبين ان ينتمي إيماننا لصبي أخفته أمه في الكهف بعيداً عن الناس خوفاً عليه من النمرود وعندما خرج من الكهف انطلق يناظر قومه وهي القصة التي يحاولون ان يلصقوها بإبراهيم والفارق الكبير ليس على صعيد (الأمانة التاريخية) وتسلسل الأحداث فحسب بل على صعيد فهمنا لماهية الإيمان نفسه والعقل والنظر وآيات الطبيعة والعلاقات المتداخلة بينها جميعاً بل على صعيد وظيفته العقل والإيمان وأولوياتها وهو فارق كانت المؤسسة وأقطابها تعيه بوضوح لذلك حرصت على تمييع وتسطيح مسألة التساؤلات الإبراهيمية وتغييب دور العقل في التمهيد للوحي تهيئة التربة الملائمة لنزول الرسالة وقد استخدمت من اجل تنفيذ هذه المهمة شتى الاساليب والوسائل من الآيات الكريمة المجتزاة من سياقها إلى أساليب البيان واللغة الحاطة والتي تكاد تتيح كل شيء تريده منها ..
ولعلنا نحتاج إلى ان نكرر ان المؤسسة لم تبن حربها ضد التساؤل على موضوعة الأسئلة الإبراهيمية بالذات بل بدأتها قبل ذلك بفترة طويلة وسط ظروف سياسية واجتماعية بالغة التعقيد والحرجة كما سيأتي تفصيلها في فصل لأحق ولكننا ركزنا على ما فعلت المؤسسة بالتساؤلات الإبراهيمية لأننا اعتبرنا هذه التساؤلات الحجر الأساس الذي بنى عليه الخطاب القرآني طبيعة التفكير في أفراد الجيل الأول..
* * *
.و مثل ذلك بل اكثر فعلت المؤسسة مع حديث الرسول(ص)(نحن احق بالشك من ابراهيم)-الحديث الي يعقب فيه الرسول على طلب ابراهيم ان يريه كيف يحيي الموتى (ليطمئن قلبي)
قال السيوطي (ت911هـ) في الديباج على الصحيح مسلم (ج1 ص173 حديث 151): في ان مقصد الرسول (ان الشك يستحيل في حق إبراهيم ! فأن الشك في احياء الموتى لو كان متطرقاً إلى الأنبياء لكنت انا أحق به من إبراهيم وقد علمتم اني لم اشك فأعلموا ان إبراهيم لم يشك (….) وانما رجح إبراهيم على نفسه تواضعاً ودياً او قبل ان يعلم انه خير ولد آدم) !! وقال ايضاً في (شرح سنن ابن ماجه) ص290 / رقم 4026: أي لم يشك إبراهيم عليه السلام فانه لو كان شك لشككنا ايضاً لانا على ملته..) .
وفي صحيح ابن حيان بترتيب ابن بلبان (المتوفي 354هـ) (لم يرد الشك بأحياء الموتى انما أراد به في استجابة الدعاء له وذلك ان إبراهيم (ص) قال رب ارني كيف تحيي الموتى ولم يتيقن انه يستجاب له فيما يريد في دعائه وسؤاله ربه كما سأل فقال (ص) نحن أحق بالشك من إبراهيم به في الدعاء لانا اذا دعونا ربما يستجاب لنا وربما لا يستجاب ومحصول هذا الكلام انه لفظة أخبار مرادها التعليم للمخاطب له) 14/88 رقم6208 .
ويقول ابن حجر متوفي (852هـ) في فتح الباري شرح صحيح البخاري (اختلف السلف في المراد بالشك هنا لحمله بعضهم على ظاهر، وقال كل ذلك قبل النبوة وحمله ايضاً الطبري على ظاهره وجعل سببه حصول وسوسة الشيطان لكنها لم ولا زلزلت الإيمان الثابت واستند في ذلك إلى ما اخرجه هو وعبيد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم من طريق عبد العزيز الماجشون عن محمد بن المنكدر عن بن عباس قال أرجى آية في القرآن هذه الاية (وإذ قال إبراهيم لربه…) قال ابن عباس هذا لما يعرض في الصدور ويوسوس به الشيطان فرضى الله من إبراهيم عليه السلام بأن قال بلى ( ونلاحظ هنا مرة أخرى ان الطبري (متوفي 310هـ) هو الأكثر عقلانية في تفسير الحديث والآية رغم انه الأقدم من كل هؤلاء ) (…) قال عطاء دخل إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال ذلك …
(…) وقيل معناه اقدرني على إحياء الموتى فتأدب في السؤال وقال بن الحصار انما سأل ان يحيي الله الموتى على يديه .
(….) كما روى بعض من لا يذكرون من ابن التين انه أراد بقوله (قلبي) (في (ليطمئن قلبي)) رجلاً صالحاً (اسمه قلبي) كان يصحبه سأله عن ذلك ! وابعد منه ما حكاه القرطبي عن بعض الصوفية انه سأل من ربه ان يريه كيف يحيي القلوب ! وقيل اراد طمأنينة النفس (…) وقال بعض (ان المقصود من قول الرسول نحن أحق بالشك) نحن اشد اشتياقاً إلى رؤية ذلك من إبراهيم وقيل (المقصود) اذا لم نشك نحن فإبراهيم اولى بأن لا يشك أي لو كان الشك متطرقاً إلى الأنبياء لكنت انا أحق به منهم وقد علمتم اني لم اشك فاعلموا انه لم يشك وانما قال ذلك تواضعاً منه او قبل ان يعلمه الله بأنه افضل من إبراهيم !! .
أراد (الرسول) ما جرت به العادة في المخاطبة لمن أراد ان يدفع عن آخر شيئاً قال مهما أردت ان تقول لفلان فقله لي ومقصودة لا تقل ذلك وقيل أراد بقوله (نحن) أمته الذين يجوز عليهم الشك واخراجه هو منه بدلالة العصمة وقيل معناه هذا الذي ترون انه شك انا أولى به لانه ليس بشك انما هو طلب لمزيد البيان وحكى بعض علماء العربية ان (افعل) (أحق) ربما جاءت لتنفي المعنى عن الشيئين نحن قواه تعإلى أهم خير ام قوم تبع ؟ أي لا خير في الفريقين ونحو قال القائل الشيطان خير من فلان أي لا خير فيهما فعلى هذا قوله نحن أحق بالشك من إبراهيم لا شك عندنا جميعاً وقال ابن الجوزي إنما صار أحق من إبراهيم لما عانى من تكذيب قومه وردهم عليه وتعجبهم من أمر البعث فقال انا أحق ان أسأل ما سأل إبراهيم لعظيم ما جرى لي مع قومي المنكرين لاحياء الموتى ولمعرفتي بتفضيل الله لي ولكن لا أسأل في ذلك (الفتح الباري 6/413) .
لقد اتفقوا إذن جميعاً واتفاقهم هذا أمر نادر بل عجيب على ان يغيبوا المعنى بل ويغيروا الحديث اختلفت وسائلهم في ذلك فبعض منها واهية ساقطة والبعض الآخر متقنة مسبوكة لا تخلو من ذكاء وفطنة وكلها تتجه جهة واحدة وتصب في مجرى واحد : ان يحرفوا الحديث الواضع عن معناه بل يغيروه بالكلية ويعكسوا المراد منه ولو لم يكن الحديث في صحيح البخاري لما تجشموا هذا العناء و لنسفوه دون تردد. لكن الحديث يظل صريحاً رغم تأكيداتهم وتأويلاتهم خاصة وانهم يناقشون جزءً معيناً من سياق اطول ويفصلون هذا الجزء عن سياقه الذي لن ينسجم مع طروحاتهم مطلقاً فالسياق التام للحديث يذكر (نحن أحق بالشك من إبراهيم ورحم الله لوطاً فقد كان يأوى إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف ربما لأجبت الداعي) ان هذا السياق وخاصة ذكر يوسف وسجنه ينسف تماماً كل الفذلكات والحيل اللفظية وغير اللفظية التي حاولوا من خلالها ان يعكسوا معنى (نحن أحق بالشك من إبراهيم ) .
… ولا ينبغي هذا ان نتصور سوء الظن والقصد في هذه المحاولات فقد كان هؤلاء يتصورون انهم يدفعون عن الرسول (ص) وعن إبراهيم تهمة فظيعة حسب مقاييسهم المؤسسية والمعرفية … ولم يتصوروا قط سوى ان الشك صفة ذميمة لا يمكن ان تستقيم مع النبوة الكريمة … فحاولوا ان ينفوها ويؤولوا الحديث بما يعكس معناه.
لم يتصوروا قط وفق الاسس التي تشكل فيها افقهم المعرفي ان الشك يوصل للايمان بل لذروته لطمأنينة القلب وانه هو الذي يدفع للبحث، للتأمل، لليقين الحقيقي ولولا توقف الطبري الذي كسر إجماعهم وقوله ان الشك من الوساوس التي لا تزلزل الإيمان وعدم انكاره ان يصيب الأنبياء بعض الشك باعتبارهم بشر مثل سائر الناس لكانوا مجتمعين في كلمتهم على نفي الشك وعلى احقية المسلمين به .
منقول من كتاب"البوصلة القرآنية"-الدكتور احمد خيري العمري-الصادر عن دار الفكر-دمشق