صمتٌ متشحٌ بالكبرياءِ.... رسالة إلى مَنْ كان وحيدي!
وحيدي:
ضائعٌ جسدي في غياهبِ الصمتِ القابضِ على عنقِ روحي, والصمتُ -لو تدري- صحراءٌ موحشٌ عمرِها؛ ما عانقتْ يومًا نفحةً من ربيعٍ, ولا لامسَ خدُها طراوةً من بنفسجٍ, وما عرفتْ يومًا سوى التدثر بجمراتِ شمسٍ تجثمُ على صدرِها, فلا منها أزهقتْ روحَ مطرٍ شاحبٍ يتربص بغيمةٍ يتيمةٍ معلقةٍ على مشاجبِ شبحِ الوحدةِ المخيفِ, ولا منها أطلقتْ سراحَ رمالٍ لاهثةٍ تكبلُ شفاهَها رمضاءُ الظمأِ.
أنا الآثمةُ؛ أنا مَنْ وهبتُ نفسي قربانًا لعشقٍ ملفوظٍ ٍمن رحمِ المحالِ, وارتضيتُ إلقاءَ جسدي المبتورِ في بحارِ حزنِك؛ أتصَّبحٌ بغيومٍ في عينيكَ تُجرِّعني البكاءَ, وأتمسَّى بريحٍ هائجةٍ, تُلقيني على جدرِ وجهِك المنحوتِ في بؤبؤِ عيني, فأتشبثُ بملامحِك المفجوعةِ والمختلطةِ بملامحِي المعذبةِ بها - كطوقٍ من نجاةٍ- أعرفُ أنه هلاكِي, وأتعلقُ به مصرةً مُستكبرةً. ما جنيتَ عليَّ حبيبي إذْ جنيت, وما جني عليَّ أحدٌ, إنما جنى قلبي عليَّ حينما نبذَ رجالَ العالمين وآثركَ – على قسوتِك- سيدًا لهم, فقذفني متجنيًا لأمواجكَ المتمردةِ, لتفترسني ذنوبُ ماضيك, وتُسحبني أذيالُ الصبرِ على وجهي المقنعِ بالرضا, وحينما ارتأى لي سرابٌ من أمانٍ – كم هفتْ روحي إليه!-... صفعتني صخورُ الخديعةِ, فتدحرجتُ ككرةٍ من شقاءٍ أتلقى بجسدي المنهكِ ألافًا من أشواكٍ نهمةٍ؛ شربتْ من دمِي حتى انتشتْ هي, فتجشَّأتُ أنا حنظلَ العذابِ.
أتذكر؟؟ يوم شققتُ صدري, ونزعتُ قلبي باسمة, ووضعتُه على كفي, وقدمتُه إليك حالمة, لتقتاتَ من لحمه وتحيى. وحيدي كنتَ أنت, وأنا كنتُ حرفًا مكررًا في أبجديتك المعزوفةِ على رقابِ ضحاياك. كان نحرُك لي أكبرَ من احتمالي, وفي سكرةٍِ من روحٍ بلغتْ الحلقوم, وفي غمرة من آثام نزفي, توشحتُ كبريائي المطعون, وأطلقتُ مخادعةً, معزوفةً من أكاذيبٍ غائرةِ في تجاويف البكاء: أنا الفولاذية التي تربعتْ على عرش من ثقة تحمله أيادٍ يُرعشها الوهن, وأنا المخادعةُ التي ارتدتْ قميصَ "يوسف", ومن قبله أنا من وسوستْ لآذان الذنوب, فأطلقتْ قيدَ بوحٍ استباح دمَ صورتي التي تدلتْ مذبوحةً في فراغ العناد؛ فلا ريحٌ منك تُلقَى على وجهي فأرتد بصيرةً في محراب فجر الأمل, ولا لوثةٌ من أضغاث حلم تصالحني على ليل عينيك القابعة في قاع قلبي .
فوق حلبة الأيام, ظلان يتصارعان, يقف الهجر بينهما حكمًا ظالمًا, يحمل في إحدى يديه قلوبًا مزقها نابُ ثقتها بك, وفي الأخرى قلبًا موشومًا بالخداع. أنا وأنت نقف متواجهين؛ أقف صامتة, مخرسٌ في عيني دمعها, أتلقى صفعاتكَ, ويستقبل ظهري طعناتٍ تأتيني منك, لا تجرؤ أناملي التي تمرغت يومًا على خدك إلا أن تتحرش بمأوىً أواكَ في تعبكَ واحتضن رأسكَ في ظلماتِ يأسكَ- رأسكَ الذي لم يعرف الراحة كما ادعيتَ إلا في ذاك المأوى, ترتقُ أناملي المرتعشة حوله ثوبًا من دمائه المتناثرة على خنجرٍ تحمله يدكَ؛ ذات اليد التي امتدتْ له يومًا في احتياجٍ مغرقٍ في التوسل. تقطعتْ بنا السبلُ, نتوازى, نتماس... لا نتلامس, نتباعد, كل منا يتجاهلُ الآخرَ كذبًا, لا يقدرُ واحدُنا على إسقاطِ الآخر من جحيم عذاباته, مُبسليْن بما كسبنا, مُغرقيْن في الحنين. نتهربُ؛ كلانا يركضُ وسطَ متاهات احتياجه, يبحثُ عن الآخرِ في حروفِه الهاربةِ من قلب الموت.
وحيدي ؛ قد نأيتُ بروحي عن روحكَ, وصدفتُ بنفسي عن دربكَ, ورحلتُ للأبد عنكَ بذنوبي التي بلغتْ زبدَ البحر, وبقلبي المثقل بالخداع والدناءة... فهل ارتحتَ؟؟. ها قد عادت إليك روحُكَ التي سلبتها منكَ, عدوًا مني وبغيًا, وها قد رُدَّ إليك جسدُكَ الذي اغتصبتُه منك بطرًا ورئاءً, ورُُد إليك حبُكَ الذي نزعتُه منك قسرًا وغصبًا وكَرهًا... فهل عرفتَ السكينة؟؟. حسبِي منكَ أبجدية تمزقني وترقصُ فوق أشلائي, وحسبك مني حرفًا بارعًا في المرواغة, مستخفًا بالعداء, ساربًا بالكبرياء. حسبِي منك فقاقيعًا من زبد الحلم الهارب منك إليك, وملحًا يتسرب من شقوق البعد إلى روحي المجدولة في ذكرياتنا الحائرة بيننا, وحسبكَ مني نرجسة قطفتها من ثغرك الذي لم يبتسم –كما زعمتَ صدقًا أو كذبًا- إلا لِي؛ نرجسة مرغتُها على ثغري الذي ما برح يلثمُك نهماً حتى ابتلعَه هذيانَ الجفاف, وامتصه عطشَ الجفاء.
أخيرًا وحيدي... أقصد يا من كنتَ وحيدي؛ إلي قلبكِ من شرفةِ عذابي, رذاذٌٌ من نور قمري الذي أفلَ في روحي, وبزغَ في روحك النامية من تربة وجعي, وأمنيةٌ ثكلى, تجرجرُ خيوط دعاءٍ باكٍ من لسانٍ ترنمَ باسمك غباءً حتى عيَ: بأنْ ترتاحَ في بعدي, وأنْ تسعدَ بهجري. آخرًا, حسبك مني دعاءً منسلاً في غفلة من تحت وسادةٍ تنام عليها غصةٌ مسترخيةٌ في حلقي المذبوحةِ أوتارِه بنصلِ الصمتِ المتشحِ بالكبرياءِ, وحسبِي ثم حسبِي, ثم حسبي مَنْ لا تُدركََه الأبصارُ وهو يُدركُها.
رحلتُ أنا عنكم... فدعوني وشأني