المُشجِّع.. والحطَّاب!
قال جحا الحكيم:
بينما كنت جالسا في بيت القاضي الذي هو أنا في هذا الأوان جاءني الحاجب يستأذن لدخول رجلين وقبل أن يكمل حديثه دخل الرجلان بغير استئذان يختصمان في جلبة وصياح ، هم الحاجب أن يصرفهما ولكنني أشرت إليه أن اتركهما ، وبعد أن تركتهما ليفرغا شحنات الغضب وبدا عليهما الإعياء ، سألتهما ما خطبكما؟
وكأنما كانا ينتظران سؤالي ليخرجهما من العراك والاشتباك
شرعا يتكلمان فصحت فيهما :
إن للحديث في حضرة القاضي أدبا
قالا:
- عجبا ، نحن منذ حين نتعارك ونتبادل السباب في حضرتك فلم تنهرنا!
- لقد تركتكتما تتعاركان معا؛ لأن العراك لا يكون إلا بين طرفين ،ولكن الحديث معي الآن فليبدأ أحدكما
فاختلفا ، فقلت:
- فليبدأ صاحبُ الحق
قال كل منهما: أنا صاحب الحق!
قلت :
- فليبدأ أعلاكما صوتا ، لأستريح من صياحه، وأشرت إلى أحدهما ففهم أنه المقصود فقال:
- يا سيدنا وقاضينا العادل جحا ، إن هذا الحطَّاب ..
- أيكما؟
- سبحان الله أيها القاضي ليس هنا سوانا والحاجب ، وبالطبع لستُ أعني الحاجب!
- لا تكثر من الكلام وأجب على قدر السؤال.
فأشار الرجل مضطرا على غير اقتناعٍ إلى صاحبه
- الآن عرفت أكمل
- إن هذا الحطاب ناكرٌ للجميل ويريد أن يهضمني حقي فيما معه من الحطب؟
- قال الحطاب : محتجا ليس له عندي حق يا سيدنا القاضي الرحيم
(أعجبني وصفه )
لكنني صحت به :
- دعه يكمل ثم سأعطيك المجال.
فأكمل الرجل:
- بل لدي في حطبه حق معلوم
- هل أنت سائل أم محروم؟
فاستنكف صائحا:
- لا هذا ولا ذاك!
- فما أنت ؟ وأنى لك بالحق المزعوم؟
قال في افتخارٍ مبالغ فيه :
- أنا مشجّع !
- مُشجّع؟!
- نعم يا سيدنا القاضي الواعي
(فرحت بهذه أيضا ولكنني كتمت فرحتي )
وقلت:
- وما فعلتَ أيها المشجع؟ هل ناولته الفأس؟
- كلا
- هل قطعت معه الحطب؟
- كلا
- هل حملتَ معه ما جمعه؟
- كلا
- هل درأتَ عن يديه هوامَّ الليل حتى لا يجمعها مع الحطب؟
- كلا
- فماذا فعلت إذن؟
- فعلتُ ما هو أهم وأجدى ، شجعته، كان كلما قطع أو حمل أو درأ أذى
يناله مني صادق التشجيع وصيحات الإعجاب. ودبجت له أجمل الشعارات
- الشعارات
- نعم يا مولانا القاضي
ألا تعلم انني بصنع الشعارات خبير، وبالتصفيق عالم كبير
(وصار يصيح بها ويصفق بكلتا يديه ليريني ما فعل)
فنهرته :
- صه أيها المخبول المأفون !
ثم توجهت للحطاب آذنا له بالكلام:
- وما قولك أيها الحطاب في دعوى هذا المشجع ؟
- إنه لم يساعدني يا مولانا القاضي، حتى الفأس التي كانت معه طلبتها منه فلم يعرني إياها ، بل لم يُعرني أذنا مصغية وتمادى في التشجيع وكأنه استحال بوقا لا يكف عن الدويّ!
والأدهى الأمر أنه كان يصيح كلما احتطبت شيا يقول : هذا حطبي
فإذا نظرت له نظرة استكار ، يصيح
بل أنا الحطب!
فتوجهت إلى المشجع المدعي :
- أو كان معك فأس
قال الرجل بخزي: أجل!
- ولماذا لم تعره إياها كما سأل
- إنه هدية تذكارية من والدي
- وما فائدتها إذن؟
- للاستعراض أمام الأهل والأصحاب يا قاضينا الحكيم ، يا من لك في القلب الحب المقيم!
(لم أفرح بمدحه هذه المرة لأنني بدأت أنفر منه )
أشحت عنه متوجها للحطاب:
- أكمل أيها الحطاب المجتهد
(انفرجت الآن أسارير الحطاب)
وشرع في الخطاب:
- أرأيت إذن يا قاضينا العادل أنْ ليس لديه فيما احتطبتُ حق
قلت :
- كلا يا أيها الحطاب بل لديه عليك حق، ولا بد أن يستوفيه منك، ولسوف نساعدك على أدائه على أكمل وجه وأتم صورة!
(انزعج الحطاب ،وعلت وجهه غيمة حزن قاتمة )
و همهم:
- كيف يا قاضينا؟
( بينما بدت علامات الظفَر على وجه صاحبه المُشجع )
تشجع فصاح :
- فليحيَ مولانا القاضي
(لم أعبأ به)
عدت للحطاب أسأله:
- هل تحسن التصفيق
- ومن لا يحسن التصفيق ؟
ثم بفتور:
- نعم أحسنه
توجهت للحاجب ، وأنت أيها الحاجب الهُمام؟
فاستنكف الحاجب قائلا : أنا مهمتي هنا أن أكون حاجبا فحسب
فقلت له متحايلا:
- لقد رقيتك إلى رتبة مساعد القاضي
فتهلل مسرورا وأجاب :
نعم يا سيدي أحسن التصفيق والتصفير والصياح
( كان المشجع يسمع ويتابع في حيرة واضطراب وكان الحطاب يتابع في وجَل واستغراب)
حتى أفاقا على قولي:
- إن حق هذا المشجع علينا أن نجزل له التشجيع فلتصفقوا معي ولتصفروا ولتصيحوا
هتف المشجع مخزولا:
- وحقي؟
- لقد استوفيتَ حقك أيها المشجع تشجيعا وتصفيقا وتصفيرا، وهل جزاء التشجيع إلا التشجيع؟
وأضفت:
- للمشجع التشجيع أصواتا بأصواتٍ ، وأما الحطب فلمن اجتهد وتعب!
فحمد الحطاب ربه على سلامة حطبه ، كما حمد الحاجب ربه على الترقية ، بينما خرج المشجع ظاهرَ الانخذالِ، كاسف البال!
وتلك يا أيها الأحباب عاقبة من يريد أن يسرق انتصار المنتصرين بينما هو من الجبناء المخذولين ، ولقد كان لديه الفأس والقدرة لكنه أبى إلا التشجيع، لأن التشجيع على مثل هؤلاء الأقزام أيسر وأهون وهو يحب مثل عشيرته وأقرانه اليسر والهوان.
والاستعراض بفأسه على الأهل والجيران !