خريفُكَ الربيعييوسف أحمد- فلسطينفي ميعة الرضا الأرجواني العذبة، ترتدي الأشياء أزهارها الربيعية، وتتولد في قلوب النوارس روح رحلات جديدة مع كل فجر مطرّز بالبهاء والوداد، وتنسحب السماء القديمة من يديكَ ملقية أقمارها وأحلامها على صدر صباح جديد يتهادى من عيونٍ بَحْرية النسيم والموج واللون والأمنيات.
تغمركَ لذة الحرف بطهرها وبهجتها وانسيابيتها، وتسبح في روحك روح أخرى كنت ترقمها على فضائك الشعريّ القزحي طيفا من أحلام، وشلالا من نور قِياميّ الوجه والمدّ والآفاق، ... وتغمض عينيك السابحتين في بحر الدهشة على انبعاث جديد لفينيق يتوالد مع كل همسة فجر.
أيُّ خريفِ لحظاتٍ هذا الذي يمتدّ في أوصالك ربيعا أبديا، فينسيك أياما كنت تحسبها ربيعا، ويفضح أمامك كلّ معاني المعاجم ودلالات المفردات التي كنت تحسبها جديدة مع كل فجر نديّ خضِل !!!!
كنتَ تُشَمِّت الصباح كلما بدت لك منه عطسة، فينعس ويتثاءب بين يديك، ثم تدثره بملاءة من النجوم المتلألئة فيسكن وأنت لا تحبّ السكون، ويغرق في نهر من النوم وأنت لا تشدك السباحة في أحلامه الهادئة حين تشتعل بك الأمنيات.
في الصباح الجديد تنتظر الصباح الآخَر، وفي الليل الذي يبسط جناحيه على صدرك المثقل بالليل، المثخَن بالحلكة تنتظر الصباحين، وعلى بوابات حضرة الأعمال الكثيرة والواجبات الخشنة تأمل من شواطئ الصباح أن تأتيك بالصباح، وحين يتسلل إليك لصّ الفراغ الوقتي تشهر في وجهه صباحا جديدا، فيولي دبره قبل أن يرتدّ عائدا إليك بصباحات مفعمة بأنفاس النور والندّ والندى.
أيُّ "أنا" هذه التي سَكَنَتْ فيك " أناك"، ونزعتك طائعا حالما من معجمك الشعري ذي الدلالات المصفودة، وألقت عليك انفتاحات الرؤى واندياحات الأبعاد، فَرُحْتَ تغترف منها ما لم تصله يداك المرتعشتان شعرا، وما لم تهطل به قريحتك التي كانت مسيجة بالعادي المكرور من قبل ؟؟؟!!!!
كنت توقد تحت تنّور " أناك" نيران الغضب والرضا فلا يقفز شيطان شعرك، وكنت تغريه بما وصلت إليه يداك من مادة، وبما يصل إليه قلبك من روح فلا يحلق بأجنحته في فضائك المفتوح، أما الان فيكفيه حرف واحد من حروف الأبجدية يغزوك بلذته صبحا، حتى ينهض شيطانك من غفوته الكهفيّة، وينتصب أمامك ملبيا نوازع المرسِل واشتهاء المرسَل إليه وراجيا منك عنوانا للرسالة الدافقة شكلا جديدا من الشعر في روحه ولذته وديمومة أثره .
تضيق بك الأمكنة على سعتها، فتكسر أحلامُك وآلاتُ ودّك كلَّ حواجز المادة، وتعبر من فوق جسور الجمود القديم إلى سواحل الوفاء الروحاني الفياض، فتقرأ في صفحة الموج المتزمّل بالروعة همسةَ نفسِك لنفسك: " كنتَ لا ترى في الحياة مِثْلَك، حتى رأيتَ فيها مَثَلَك"، فيسرح بصرك وبصيرتك في مدى الأحلام المتسعة الزرقاء، وتغيب أنت عنك، ثمّ لا تلبث أن تكتشف أن الغيبة الزرقاء هي سبيل الحضور المشحون باللذة الخضراء.
أي وقت هارب من بين أصابعك إليك، ومن بين أناك الناثرة إلى أناك الشاعرة، ومن شمع شهدك إلى شهد شمعك، ومن أجنحة فراشك إلى فراش أجنحتك؟ وأيّ وقت هارب إليك ذاك الذي يشعرك أنك مخلوق آخر، فلكل مخلوق " أنا" واحدة، أما أنت فأناك الظاهرة أنت، وأناك التي تجد فيها أناك هي هي ؟؟!!!
أي وقت هذا الذي تكحله يد "الأنا" الأخرى بمعجمها الشعري، فتبصر به رؤاك الجديدة حيّةً نابضة، وأحلامَك القديمةَ المصفودة أنهارا من سوسن ونيلوفر وحنّاء؟ أي وقت هذا الذي يستحيل بين أناملها صباحات إشراق خضِرة ، فيندّ من شفتيك اللاهبتين نفح سؤالك المعهود المحبوب الهامس :" ومنْ مثلُ هذا الملاك الملهم؟؟؟"
أيها العمر الربيعي المتولد من خريف العمر طفلا ، سقيا لك ولعهدِك الوعدِ، وطوبى لحروف الأبجدية بين يديك، فما زالت شظايا أمسك تسير بك في صراط رغائبك الخضراء، وما زالت أعصاب ضرسك القديم تلسع عصفور الأدب تحت لسانك، فتوقظ فيه سيولا من بهاء وطهر وشفافية روح.
أيها العمر الربيعي الدافق، لا سلطان عليك إلا لمن تنفّس من رئةِ فجرِ الله جمالَه ولذّته، وتشبّثتْ عينا انتظاره بخرير أصابعك، ولا انشطار للروح في ظلال سلسبيل وصلِه، ولا توتّر لعضلات بَدَنٍ تخلَّص من وعثاء الطين، فحلق ساميا إلى مدارج الكمال، حيث ترمقه العيون بانبهار وعجب، ويندلق من الشفاه في كل إذن واعية سؤال وجودي كبير: " متى يغدو سليل الطين روحا غير مصفودة بأغلال سلالته ؟ "