بينما كان يقلب أوراق كتاب ألفه قبل عشرين عاماً ـ إذ لحظ رأياً قد تبناه يوماً من الأيام في إحدى القضايا الأدبية، ثم تحول عن رأيه بعد عقد من الزمن، تبسم الرجل وقد تذكر تلك الأيام الخوالي ، وجذبه التفكير بعيداً عن فحوى الكتاب، فأخذ في التفكر في طبائع الناس وأخلاقاهم واجتماعياتهم أنذاك ، وقارن أحوالهم بالوقت الذي يعيش فيه، فوجد اختلافاً واسعاً ، وبوناً شاسعاً، فأمسك بالقلم مسطراً على منتصف ورقة عبارة "من الماضي"
ثم شرع في ترتيب الأفكار في رأسه ، على شكل ذكريات له عزيزة، وبينما هو في ذلك مشغول ، إذ دخل عليه حفيده الشاب، وقد علت وجهه ابتسامة مشرقة ، ملقياً بتحية الصباح على جده، ثم انشغل باحثاً عن كتاب كان قد أعجب به يتحدث عن ماض بلدته ، التي هُجر منها أجداده ، وعندما وجده انشرح وجهه بهجةً ، وجلس على أقرب كرسي وجده ، فاتحاً لصفحات الكتاب ثم منسجماً مع حروفه تماماً.
نظر إليه جده نظرة اهتمام ، ثم اقترب منه قائلاً : ولدي إنك تشبه والدك كثيراً وستصبح مثله في يوم من الأيام.
نظر إليه الحفيد وقد أوماً برأسه ثم أقبل مرة أخرى على الكتاب يطالعه.
***********
بعد أكثر من عشرين عاماً ، كان هذا الكهل يجلس بجوار قبرين ، قبر أبيه وقبره جده، ويحمل في يده كتاباً قد نقش اسم جده عليه، ويحمل عنوان " من الماضي"، وكان هذا الشاب يبتسم في حنان قائلاً : جدي لقد أصبحتُ مثل والدي تماماً .
انتهت