بسم الله الرحمن الرحيم
*مستعجلات الموت *
******************
رن هاتفي المحمول فاهتز بداخل جيبي بحرية دون أن يعترضه عارض، كالنقود
المعدنية التي كانت تملؤه يوما، ولقد بدت لي هزاته عنيفة ونغمته هذه المرة
غير طبيعية، وكأن رنة موسيقية مخيفة تتناغم مع رنته المألوفة، ممادفع بأناملي
لتلتقط الهاتف بسرعة، وأقربه من أذني، دون حتى أن ألقي نظرة على رقم المتصل
الظاهر على شاشته، مبادرا
الطرف الآخر قائلا:
ـ أنا معك من المتكلم؟
إستمتعت في ذهول لمحدثي الذي عرفت فيه صوت أخي الأصغر، دون أن
أنبس ببنت شفة حتى أكمل كلامه،فصحت فيه قائلا:
ـ حسنا.. حسنا.. إبق حيث أنت، أنا آت إليكما حالا.
ودون أن أضيع ثانية واحدة، أشرت إلى صاحب سيارة أجرة للتوقف، من
بين العدد الكبير من سيارات الأجرة التي تروح وتجيء دونما طائل، وما إن
ركبت سيارته حتى هتفت فيه منفعلا:
ـ أما م مبني العمالة، بسرعة أرجوك.
لكن كما يقال عندنا بالعامية :
ـ< ازرب تبطى> ـ بمعنى كلما أسرعت كلما تأخرت ـ
إذ سرعان ما استوقفنا شرطي المرور، ولما كنت أعلم أن أي دقيقة أخسرها
قد تعني الكثير، فقد تركت السيارة في عجل قائلا للسائق:
ـ معذرة ، مضطر أن أغادر، فموقفي لايحتمل مثل هذا التوقف الروتيني
الممل والمستفز..
قلت هذا، وتحولت إلى آلة للعدو وأنا أعدوا في اتجاه مبني العمالة، دون
أن ألقي أهمية للسائق الذي راح يطلق سبابا ساخطا لاعنا حظه العاثر، فبعد ان
كان يملي نفسه بدراهم معدودات- التي ماكانت لتكون- هو ذا يقف بين براثن رجل
أمن لايفهم معنى الإسم الذي يحمله، فقاموسه لايحوي غير نقيض الأمن والأمان..
وصلت إلى ساحة العمالة، التي حولها ساكنة مدينتي إلى متنزه ليلي، في
غياب أي حديقة بهذه المدينة الكبيرة، التي تمثل عاصمة الإقليم،
فبحثت في توتر بين الوجوه كالمجنون، الشيء الذي جعل أحد الأشخاص
يقبل علي قائلا:
ـ أنت تبحث عن شخص معين؟
أجبته في توتر:
ـ نعم سيدي. لقد اتصل بي أخي منذ لحظات، يخبرني أن زوج أختي الذي كان
بصحبته، أصيب بوعكة صحية خطيرة مفاجأة، أشلت حركته تماما،فهرعت إلى هنا.
مط الرجل شفتيه في أسف مبديا بعض التشجيع:
ـ اطمئن، حالته ليست خطيرة، ولقد نقله أحدهم في سيارته إلى المستشفى الإقليمي
بعد أن يئسنا من حظور سيارة الإسعاف .
ودون أن أشكره، تركته، وأطلقت ساقي نحو المستشفى، وحينما وصلت
محيطه تسورت سوره، متجنبا الدخول من بابه الرئيسي الذي يقف عليه
حارسا منيعا، لايسمح بدخول غير أولي النعم ..
وفي قسم المستعجلات، تفاجأت بأخي خارجا، وزوج أختي يتلوى على الأرض
وهو يتقيأ، فصحت في أخي قائلا :
ـ ماهذا، ألم تدخله بعد؟
أجابني في مرارة:
- بل فعلت، لكني وجدت عددا كبيرا من المرضى في الانتظار.
قلت له في توتر:
ـ لكن الشاب حالته خطيرة تستدعي العجلة.
هتف أخي مجيبا:
ـ هناك حالات أخطر، ولا أحد سيقبل أن يتنازل له عن دوره.
صحت في غضب، وأنا أدلف إلى قاعة الانتظار في عنف:
ـ غير معقول. الرجل يكاد يلفظ أنفاسه يجب أن...
توقفت عن الكلام حينما رأيت ذالك الطابور من المرضى الذين ينتظرون
دورهم ،والذي بدا لي لوهلة كذالك الطابور المذل الذي رأيته قبلا على
شاشة تلفازي، والمتمثل في فقراء المدينة وهم يتدافعون لينالوا نصيبهم
من وجبة إفطار رمضان، قبل أن أكتشف أن ذالك المنظر أكثر رحمة
بألف درجة من المنظر الذي أراه الآن..
فالمنظر مخيف بحق:
رجل مسن يفرز من فمه لعابا مليئا بالدم..
وشاب يمسك برأسه في رعب ..
وامرأة تمشي جيئة وذهابا، ممسكة على موضع معدتها في ألم..
وفتاة صغيرة تطلق صراخا رهيبا و...
وأشد ما أثار انتباهي، تلك المرأة المسكينة التي تحمل بين يديها ابنها
الصغير، الذي راح يطلق حشرجة مخيفة وهي تحاول تهدئته، فأثارت
شفقتي، فتشجعت وتوجهت إلى القائم على تنظيم الدخول على الطبيب وترجيته قائلا:
ـ أرجوا أن تقدم هذا الصغير، فحالته تبدو خطيرة.
رمقني الرجل بنظرة نارية قائلا لي:
ـ اهتم بشأنك، وانتظر دورك، وإذا أثار شفقتك فخذه إلى عيادة خاصة..
طبعا كان بودي لو لكمت هذا المتحذلق على أنفه، لكني تمالكت نفسي
وأنا أتراجع إلى الوراء، إذ لا يمكنني أن أفعل للصغير شيئا، إذ عليه
أن ينتظر دوره العاشر مادام أن أحدا من المرضى لم يتنازل له عن دوره، فلا
أحد سيكون بمقدوره أن يتراجع إلى الدور الثلاثون.
وأنا لا يمكنني عمليا أن أساعده، إذ أن دورنا نحن في الثالث والعشرون، هذ
ا طبعا دون حساب الأشخاص ذوي ربطة العنق الزاهية، والذين
يمرون دون احترام الأسبقية..
ـ ( رقم عشرة )..
سمعت الصوت، فأفقت من أفكاري، وهرعت إلى المرأة كي أساعدها
في إدخال ابنها، ولما وقفت أمامها لاحظت تلك الدمعة من القهر
والمرارة التي انسدلت من عينيها وهي تقول لي في جمود:
ـ لم تعد هناك فائدة.. لقد مات..مات ..مات.. قتلوه..
ومن يومها..
من يوم ما مات الطفل بين يدي أمه،
ومن يوم ما تم نقل زوج أختي إلى المستشفى الكبير في الجهة
الشرقية للمملكة، والذي لازال يرقد فيه بين الحياة والموت حتى الآن،
ومن يوم ما سجنت بسب تعليقي للافتة بهاعبارة: (الموت)، بمحاذات
عبارة: (مستعجلات)، بذلك المستشفى الذي شهدت فيه ذاك الحادث المأساوي....
من يومها علمت يقينا أننا في هذا البلد، سنشهد قريبا عصر الزومبي،
أوالموتى الأحياء..
تمت بحمد الله
عبدالرحمان