سلام الـلـه عليكم
في اجتماع أدباء الواحة الاسبوعي في دولة الكويت , المنعقد يوم الجمعة الموافق 12/01/2007 , قام الأخوة الأدباء :
د. مصطفى عراقي
د. مصطفى عطية
أ. مأمون المغازي
أ. محمد سامي البوهي
د. محمد حسن السمان
وبوجود الأديب القاص حسام القاضي
بتقديم قراءات مختلفة , لقصة " ربطة عنق " للأديب القاص حسام القاضي , بدأها الدكتور مصطفى عراقي , ثم انتهت بالأديب القاص محمد سامي البوهي , وقد جرت مناقشات مستفيضة في القصة , على اختلاف مناحيها ومدلولاتها والفنيات المعتمدة في كتابتها , وقد اعتمدت القراءات المختلفة , ضمن قراءة واحدة , جرى التوافق عليها , وتتلخص هذه القراءات المشتركة , فيما يلي :
جاء عنوان القصة لافتا جدا , وموظفا توظيفا بارعا , في صياغة النص , فقد أوغل العنوان ابتداء من رأس النص الى عمقه , معطيا دلالات ومؤشرات , ذات أهمية ايجابية , في تقديم الرسالة الهادفة , التي استلهمت النص , ففي كل جزئية من جزئيات القصة , كنا نرى ربطة العنق , التي شكلت مفتاحا رئيسيا , من مفاتيح القصة , بمدلولاتها الشكلية , التي توحي بقسرية التقيد , ثم نرى في ربطة العنق , معنى الربط المحيط بالعنق , وفي هذا مدلول قوي , على الامساك بالرقبة , وتطويع الفرد ليستجيب لما يفرضه , من يمسك بالرقبة , لئن كان فردا آخر , أو مجموعة , او نظاما سياسيا , أو حتى لو كان التزاما أدبيا أو وطنيا أو فكريا أو دينيا .
ثم نشاهد الكاتب قد ولج مباشرة الى قلب الحدث , دون مقدمات , ليرسم لنا في اللوحة الأولى , مشهدا لبطل القصة " البطل " في مرأى حواري , وهو يحاول الدخول الى ... , والموظف المسؤول عن تنظيم الدخول يمنعه من الدخول , والبطل يشير بسهولة ويسر , أنه يملك تذكرة , كناية عن أنه يحمل صفة المواطنية لهذا التكوين المجتمعي :
" -آسف جدا لن تستطيع الدخول .
- لمَ ؟ معي تذكرتي و ...
- الأمر لاعلاقة له بالتذكرة إنه ...
- كيف ؟ أليست التذكرة هي شرط الدخول الأساسي ؟
- لا هناك شروط أخرى أهم.
- مثل ماذا ؟
- لاداعي للسخرية . إقرأ إعلاننا الموجود بالمدخل هناك .
وتبرز المشكلة , عندما يشير الموظف الى أن الدخول مشروط بوضع ربطة العنق :
" - الأمر لله , ممنوع الدخول ياسيد بدون ربطة عنق ."
ويعود البطل ليستغرب ما يجري , قائلا : ربطة عنق ! ثم ليستغرب دخول أناس ليس لديهم ربطة عنق , بل وبدون حلّة , بمعنى أنه هناك استثناءات بل وتجاوزات شديدة , ويعود الموظف ليجيب : هؤلاء أجانب ولانستطيع أن نملي عليهم شروطنا , كما لو أن الكاتب اراد بذلك أن يوحي بأن هذا المجتمع مخترق , أو أن هذا المجتمع أو من يتحكم به , يستطيع التحكم بالقريب , ولكنه لايستطيع أن يقول لا للأجانب :
" - هؤلاء اجانب ولانستطيع أن نملي عليهم شروطنا .
- منطق غريب , هناك يجبرون الغريب قبل القريب على احترام شروطهم بينما نحن ..."
ثم يبرز الكاتب حقيقة أن الذي يقوم بعملية منع البطل من الدخول في المجتمع , هو موظف يقوم بأداء واجب وظيفي , لايملك القرار :
" - ألا ترى أنك تعطّلني عن أداء وظيفتي ؟ أفسح الطريق لمن خلفك ليستطيع الدخول . "
ثم يعيد الكاتب بايجاز وتكثيف لقطة حوارية , يؤكد فيها الموظف على ضرورة شرط " ربطة العنق " , في حين أن البطل يريد أن يعرّفه بشخصيته , فيقول له : ألا ترى عنقي , ألا ترى هذا التضخم كيف أحيطه بربطة عنق , بل كيف أحيطه بياقة قميص , في دلالة واضحة على أنه البطل صاحب الرقبة الضخمة التي لايمكن أن تلوى اوتربط , ثم يصرّح البطل , بعد أن يقول الموظف , أن لادخل له بعنق البطل :
" - كيف ؟ لقد اصبحت هكذا من أجلكم , ومن أجل ابنائكم وأحفادكم و..."
ثم يتجلى الاهمال للبطل هنا , أو لمن يقدمون أعمالا جليلة للوطن , وعدم تقدير وظنيتهم وتضحياتهم , من خلال قول الموظف , ردا على قول البطل , وهو يشير الى تضحياته من اجل الوطن والشعب والأمة بشكل غير مباشر:
" - ماهذا الهراء ؟ من اجل من؟ أنا لم أرك من قبل , ولاأعرفك, كفاك هذيانا وابتعد قبل أن اطلب رجال الأمن . "
ثم يرتفع مستوى الحوار , ليظهر أن الأمر ليس مجرد موقف عارض , وإنما هو فلسفة مبرمجة , بين وجهتي نظر , حيث يقول البطل :
" - أنا لاأهذي إنها الحقيقة , وقد كنت على استعداد لما هو أكثر من هذا , ومازلت وعن طيب خاطر ."
وبالمقابل يزداد وضوح فكرة الاهمال والتغييب , في ظل مجتمع لايقدّر العاملين الأسوياء , لايقدّر الذين يضحون في سبيل الوطن , عندما يتوجّه الموظف الى البطل , ليقول له :
"- وهل طلبنا منك ذلك؟ هل رجوناك ؟ أم قبّلنا يدك ؟ "
وفي عبارة أخرى , يقول :
" - أنا شخصيا لم اطلب منك أن تذهب , وعليه فأنا لست مسؤولا عما حدث لك , والآن انصرف وإلا ... "
وأخيرا , نجد تحقيق علمية التهميش , عندما نجد أن الموظف يأمر قوى الأمن :
" - ألقوا بهذا الرجل خارجا ."
ومع الانتقال الى اللوحة الثانية من القصة , نلاحظ وكأن الكاتب , أراد أن يستخدم الحواس كلها مجتمعة في رسم المشهد , فصوت أزيز الطائرات , وأصوات القنابل المتساقطة , ثم رؤية الشظايا المتطايرة في كل اتجاه , ورائحة اللحم البشري المحترق , دمرّت الكتيبة بالكامل , مات كل شيء إلا البطل , وجهاز اللاسلكي , وفجأة صوت صفير ضعيف ينبعث من الجهاز , وكأن الكاتب يصوّر لنا ساحة المشهد , يوضبها باتقان , لينقلنا الى اللمحات البطولية , في استحضار موفق , نرى أن الكاتب اختصر التفصيلات ,ليسمعنا النداء :
" فهد ينادي نمر . فهد ينادي نمر . حوّل . "
ويعود الكاتب لاكمال صورة المشهد , عندما يرينا كيف ينتشل البطل ساقه الجريحة المغروسة في الرمال , بصعوبة بالغة , ليبدأ الكاتب بحزمة حوارية , من نوع مختلف , حيث نفهم من خلالها , أن البطل هو الوحيد الباقي على قيد الحياة , بعد تدمير كتيبته بالكامل :
" - نمر معكم . حوّل .
- كم عددكم ؟
- واحد .
- ماذا ؟
- دمرت الكتيبة بالكامل .
ويعطينا الكاتب صورة مكثّفة , للتركيز على البطل , عند الحاجة , وهو الأهم , عندما يسال القائد العسكري , البطل نمر , هل يمكنني الاعتماد عليك ؟ وليرقى الكاتب بصورة البطل , عندما يجيب : بإذن الـلـه , ونرى أن القائد وقد عرف مسبقا , نوعية البطل الذي يتعامل معه , او مع أمثاله من الأبطال , فيطلب منه , طلبا قريبا من المهمة المستحيلة , بحالة من الحميمية الخالصة بين الابطال , فهو يريد تعطيل قوات العدو المتجهة شرقا لبعض الوقت :
- من أنت ؟
- رقيب مجند ( ......)
- هل يمكنني الاعتماد عليك ؟
- بإذن الـلـه .
- أريد تعطيل قوات العدو المتجهة للشرق بعض الوقت .
- عُلم .
- وفقك الـلـه . "
ويتحرك المشهد , بشكل درامي , فنرى أن الكاتب ببراعة , يصوّر لنا البطل وكأنه مارد جريح , هبّ متنقلا من مدفع إلى مدفع , متوليا دور الناقل والمعمّر والرامي .
" كمارد جريح هبّ متنقلا من مدفع إلى مدفع , متوليا دور الناقل والمعمّر والرامي . "
ثم يفاجئنا الكاتب باستحضار مشهد درامي آخر , حيث يصوّر لنا كتلا بيضاء تحيط بالبطل , وينبعث صوت الممرضة , لتقول للبطل : حمدا لله على سلامتك يابطل .
" من بين الكتل البيضاء المحيطة به جاء صوتها :
- حمدا لله على سلامتك يابطل .
- أين أنا ؟
- في أمان . لاتحاول تحريك عنقك .
- أشعر بآلام شديدة .
ثم وكأن الكاتب راح يحضّر القارئ للمشهد اللاحق , عندما تقرر الممرضة ضرورة , أخذ البطل لحقنة مهدئة :
" - سترتاح بعد هذه الحقنة "
وعندما يسأل البطل عمّا حدث , نجد أن الكاتب , أتحفنا بصورة ملحمية , عالية التأثير , حيث تظهر أن البطل عند تفانيه في أداء واجبه في تعطيل قوات العدو , التحم مع ماسورة المدفع المنصهرة , من شدة الضرب :
" لقد وجدوك معلقا لماسورة المدفع المنصهرة من شدة الضرب . "
وأخيرا يضعنا الكاتب , في حالة فلسفية , خلال حزمة من الافكار المتتالية , تمثّل جملة هواجس , ومرتسمات للمعاناة :
" - لاحل لي سوى الهجرة .
- ................
- جحود في كل مكان .
- ................
- لا أمل في تحسن الأحوال .
- ................
- الحياة هنا أصبحت لاتطاق .
- ................
- لامعنى لكلمة وطن , إنه لفظ أجوف ."
ثم يظهر الكاتب حالة حدية من القهر والألم , عندما يذكر البطل , خلال هواجسه , أن لاأهل له , وقد توفيت زوجته وابنته , ويظهر حالة معاناته , عندما كان يحاول أن يعثر على نقطة دم واحدة لانقاذهما , ولكن دون جدوى .
" - من ؟ لاأهل لي . لقد توفيت زوجتي وابنتي , لم أجد نقطة دم واحدة لإنقاذ حياتهما "
ثم يظهر الكاتب تصميم البطل على الهجرة والرحيل , ضمن حالة من فقدان الوزن , رسمت بذكاء , عندما يذكر البطل , أن ساعته معطّلة , وأنه بات يعرف الوقت من المذياع :
"- سوف ارحل وليذهب الجميع الى الجحيم .
- ..............
- أحاول معرفة الوقت من المذياع , ساعتي معطّلة ."
ثم يعيدنا الكاتب الى صوت المارشات العسكرية المنبعثة من المذياع , ثم يبين معاودة حاجة الوطن للأبطال , عندما يسمعنا بيانا من القيادة العامة للقوات المسلحة :
"- هنا القاهرة , صدر البيان التالي من القيادة العامة للقوات المسلحة , قامت مجموعة من قوات العدو بمهاجمة منطقة ( ......) في الشرق , ولقد تصدى رجالنا ومازال القتال مستمرا حتى لحظة صدور هذا البيان و ... "
ويقرع الكاتب الجرس ثانية وثالثة , بصوت المذياع , هنا القاهرة , ليركّز على رمز الخاجة للابطال واستصراخا للوطنيين :
" -هنا القاهرة .
- ............
- ............
- هنا القاهرة ."
ثم تاتي القفلة الصارخة بقوتها , وكأنها تذكرنا بالعنوان " ربطة عنق " , التي ربما هنا عنت الامانة في العنق , لنجد أن الكاتب أرانا البطل وقد نفر من هواجسه , ليلبي نداء الواجب , تاركا الحقيبة التي اعدها للسفر وجواز سفره مهملين أمام المرآة التي ربما اراد الكاتب توظيفها , لكأن البطل كان ينظر من خلالها لشخصيته الحقيقية .
" وأمام المرآة كانت هناك حقيبة وجواز سفر ملقيين في إهمال واضح . "
وأخيرا نقول إن قصة " ربطة عنق " عمل أدبي متميّز , حوى أبعادا كثيرة مختلفة , كثّفت خلال نص كياني , متعدد الجوانب , أبدع الكاتب بتصميمه وفق خارطة هندسية , جعل فيها اربعة مرتسمات , تتطرق الى كيان الأمة , وحوى كل مرتسم جيوبا داخلية , تخدم الغرض بشكل مدهش , وقد استخدم الكاتب ببراعة الحزم الحوارية الموفقة , فعندما ينتهي كادر ما , يبدأ كادر جديد , اعتمدت جرعات الشحن المتتابع , لايصال القارئ الى الولوج في الحالة , دون حاجة للتخيل والتوقف للتفكير, لاتيعاب الفكرة , ولئن أبدع الكاتب في استخدام العنوان , فهو قد أبدع في قفلة النهاية , التي تضمنت مفتاحا لفهم مداخل ومرتسمات الخريطة الهندسية للنص , وقد قدمت القصة رسالة هادفة رفيعة المستوى .
الأديب د. مصطفى عراقي
الأديب د. مصطفى عطية جمعة
الأديب ا. مأمون المغازي
الأديب ا. محمد سامي البوهي
الأديب د. محمد حسن السمان