السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وما زال الوطن ينزف
قصة بقلمي الفلسطيني
عند منحدر الجبال، حيث تمتد غابات الزيتون، راسخة جذورها في الأَرض، شامخة نحو الشمس، توسدت الأرض واتكأت بظهري على جذع إحداها، ألتحف السماء، وأستنشق عبيرها المعتق ألذي يعبق في زوايا المكان ويلطف الأجواء... أخذ شريط الذاكرة يتحرك أمامي، ومن بعيد تأتي على مسامعي نغمات ناي الراعي الحزين، فتثير بي الشوق ويرجعني سنوات طويلة الى الخلف...
*****
في هذا المكان دارت أحلى ليالي السمر الصيفية، بنسمات رطبة تلفح الوجوه، محلاَّة بزهر اللوز، يسكنها أعز الأحباب... في موسم الحصاد والفرح، حيث كنا نجري خلف آليات الحصاد، ونلملم القش المتخلف ورائها، وننثره على بعضنا البعض، ونحن نضحك ملء الأشداق، وأصواتنا تجلجل في علو السماء... وقيثارة ضحكات كبار العائلة تعزف الفرح لأجلنا، فيرموننا بوابل من الفكاهات والمقالب....
ولكن أين هم الآن؟؟ أين حناجرهم القوية؟! أين أجسادهم القمحية التي لفحتها الشمس؟! وعقولهم الراجحة الرَّزينة التي مدَّت لنا مجاديف الآمان؟! لقد بعثرتها الرياح وعلا في الأرض صوت الكلاب، فبكينا لرحيلهم ومعنا ناح الحمام...
*****
وما زال شريط الذاكرة يلتف امامي ويعانق روحي فتكاد ان تشهق وأنفاسي تضيق لاهثة لعظمة الألم والمصاب الجلل... فهي ذات اللَّيالي التي نزعتهم من أحضاننا، وخطفت بريق الأمل والفرح من عيوننا، ولكن هذه المرة علا أزيز الطائرات على أصوات الآليات وجلجلة ضحكاتنا.. فجأة وكأنه انبلج النهار وأضواء خارقة ارتطمت بالأرض، فاذا هي بقنابل ومتفجرات تتطاير ومعها التراب، وغيوم الدخان غطت على الأنوار المنبعثة من المصابيح والقمر، وساد الهرج والمرج، وتعالت صرخاتهم علينا، أسرعوا الى الكوخ وانبطحوا أرضاً، فهرولنا إليه والرعب يفغر أفواهنا ويحتل عيوننا، ونحن نصرخ مشدوهين لا نعي ما يحدث!! ولماذا؟؟!! استجبنا للغوالي فحسب...
ولا أعلم كم مرَّ من الوقت ونحن محصورين ومتقوقعين داخل كهف الرعب والترقب، لنصحو من غفلتنا على وقع أقدام تحثُّ الخطى باتجاهنا، فينبثق ضوء خافت وصوت قائل بحزن وحنان: أنهضوا يا صغاري، لقد زال الخطر وذهب الأوغاد، ولكن هناك موتاً جثم على الصدور، فلفَّع النفوس بالأسى، وارتدينا الدموع.....
فجالت عيناي في المكان متنقلة بين مشاهد فظيعة ورهيبة لن أنساها ما حييت، صنعتها الأيدي الإجرامية الآثمة، أجساد غارقة بالدماء، شظايا الأشياء المتناثرة، عويل النساء، نحيب الأطفال.... فوضعت كفِّي على عيني غير مصدقة ما آرى، وفركتهما علَّني أصحو من كابوس داهمني على حين غرَّة، لكن بلا جدوى وفائدة، فانهرت وسقطت ارضاً أتمرغ بدمائهم، ألثم ثراً داسته أقدامهم، وتحضنني بحنان أرضاً لم تعد لنا..أرضاً جدباء ليس فيها حياة.. فرفعت رأسي نحو السماء بشموخ، تملئني روح التحدي والغضب قائلة:
"سنقاوم...سنقاوم...
أنصرنا يا الله وانصر الإسلام
والمسلمين على القوم الظالمين".