قراءة في قصيدته نهج الأخوة
أولاً :
يطرح الشاعر نصوصاً فلسفياً مأخوذاً بروحية رؤيته القائمة على متون فكرية ترتكز على ( القياس) متغافلاً عن طريقة التفكير القائمة على (الإستقراء) فهذا البيت الثالث يقدم للقارئ سؤالاً عن الأخوة التي تعطي معنى الوفاق في ضمير الشاعر إذ يستصرخ البيت فينا حاسة الدهشة لتستنزف المشهد الذي صار الوفاق فراقاً وتخاتلاُ وإذاية ..وتناسى الشاعر أن الله تعالى حدثنا بأفجع من هذه الصورة في قرآنه المجيد وفي الساعات الأولى لبدء الحياة عن نبأ من قربا له (جل في علاه) قرباناً قادهما إلى اللحظة التي فارق أحدهما الآخر بالقتل .. ونحن أحبتي نتناسى أننا أبناء قابيل القاتل وأن المظلوم على الدوام .. مقتول ومفارق لنا.
هذا التاريخ يؤكد ما أقول فقد نعمت البشرية بسنة واحدة من السلام مقابل ثلاثة عشر سنة من الحروب كدلالة على بربرية ووحشية الإنسان .
مَاذَا اعْتِبَـارُ أَخٍ دَسَّ الفِـرَاقُ لَنَـا
يَأْتِي التَّخَاتُلَ حِينًـا وَالأَذَى حِينَـا
ثانياً
ينتقل النص إلى زاوية فكرية مبدعة حينما يخبرنا البيت الثامن وبإيجاز عن معضلة قيمية يقع في فخاخ عللها الكثيرون ، ذلك أننا نعتقد ونطلب المعاني بالألفاظ ونتحصن بالشعارات عن الولاءات ، فكل إمام وخليفة وقائد وزعيم وقد جلس فوق رؤوس السيادة لتفاصيل حياتنا مخادعاً بزخرف القول فصدقناه أن شرعة السلطان هي بعض شرعة القرآن فهتفنا بالروح بالدم نفديك يا .. زعيم المزاعم.
أَمَّنْ تَوَضَّأَ طُهْرَ القَولِ مِـنْ نَجَـسٍ
وَقَـالَ إِنِّـي إِمَــامٌ لِلمُصَلِّيـنَـا
والعلة التي يفكك أسرارها هذا البيت الخطير هي الوباء الذي أصاب الأمة في مقتلها.
حَقُّ المَبَادِئِ فِي الأَحْـرَارِ رَاسِخَـةً
كَمَا العَقِيدَةُ فِـي الأَحْشَـاءِ تَمْكِينَـا
فكما يحدثنا القرآن عن صنف المنافقين الذين رفعوا في وجوهنا آيات عقيدتهم المزيفة ونحن لانشاهد الزيف كذا تحدثنا الأيام عن صنف المخاتلين الذين رفعوا في وجوهنا آيات مبادئهم المشوشة ونحن لا نشاهد التشويه.
ثالثاً
عندما يصل الشاعر إلى رفح وطابا وسينا في قوله
أَمَّنْ يُهَدِّدُ سَـاقَ العِـزِّ فِـي رَفَـحٍ
وَيَقْبَلُ الذُّلَّ فِي طَابَـا وَفِـي سِينَـا
تبدأ القصيدة بأخذ منحى جديد منتقلة من التلميح إلى التصريح ليغوص الشاعر في تفاصيل حكايات فجيعتنا الكبرى ، ليصل التصور الشعري إلى أقصى مدى المصارحات إذ يقول :
مَاذَا اصْطِبَارُكِ يَا دَارِي وَقَدْ عَصَفَتْ
فِيكِ النَّوَائِبُ مِمَّـنْ قِيـلَ: أَهْلُونَـا؟
فالشاعر يعزو ما أصابنا إلى أنفسنا وهو تقرير قرآني مجيد ؛ اقرأ إن شئت قول الله تعالى :
وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ..{30}سورة الشورى
أخيراً
خلاصة ما تريد أن تقوله القصيدة من أن معادلة النصر هي:
(همتي + همتك أخي ) يساوي أو أكبر من ( همومنا )
\
الشاعر هنا يبدو متألقاً حتى في حزنه ؛ فهذا النص الثري يخبرنا عن نبضه الشعري وهو يكتب بقلم من نقاء.
أحيي في سطور القصيدة عنفوانها.
وباركك ربي أيها الشاعر الفحل .
_______________________________________________
نص القصيدة :
مَنْ يَدَّعِ الحُـبَّ لا يُـؤْذِ المُحِبِّينَـا
وَلا يُبَـدِّلْ بِشَهْـدِ الـوُدِّ غِسْلِيـنَـا
وَلا يُقَـدِّمْ يَـدًا بِالعَـهْـدِ وَاهِـيَـةً
بِهَـا يُـقَـدِّمُ لِـلأَعْـدَاءِ سِكِّيـنَـا
مَاذَا اعْتِبَـارُ أَخٍ دَسَّ الفِـرَاقُ لَنَـا
يَأْتِي التَّخَاتُلَ حِينًـا وَالأَذَى حِينَـا؟
لَمْ يَأْلُ عَهْدُ صَحِيـحِ الـوُدِّ مُنْتَهَكًـا
حَتَّى تَرَدَّى بِكَـفِّ العَفْـوِ مَطْعُونَـا
تَزَوَّجَتْ مِنْ إِنَـاثِ الغَـدْرِ نَزْوَتُـهُ
فَأَنْجَبَتْ مِنْ ذُكُـورِ الكِبْـرِ قَارُونَـا
كَأَنَّ حَافِيَةَ الأَخْـلاقِ مَـا بَسَطَـتْ
لَهَا العَجَائِـبُ إِلا الـدَّرْبَ سِجِّينَـا
تَدْنُو بِهَا مِنْ لَبُونِ الكِيـسِ غَايَتُهَـا
قَابَ احْتِمَالٍ وَتَنْـأَى بِالـذِي شِينَـا
أَمَّنْ تَوَضَّأَ طُهْرَ القَولِ مِـنْ نَجَـسٍ
وَقَـالَ إِنِّـي إِمَــامٌ لِلمُصَلِّيـنَـا
أَمَّنْ يَغَـارُ عَلَـى لَيلَـى فَيُغْرِقُهَـا
وَيُهْلِكُ البَحْرَ كَـي يَسْتَنْقِـذَ المِينَـا
أَمَّنْ يَظُـنُّ بِـأَنَّ المَجْـدَ صَهْوَتُـهُ
إِنْ قَالَ بَيتًا مِنَ الأَشْعَـارِ مَوزُونَـا
أَمَّنْ تَمَلَّكَ عَرْشًـا غَيـرَ مُنْتَخَـبٍ
حَتَّى تَمَلَّـكَ مِنْـهُ الوَهْـمُ مَفْتُونَـا
يُفَاخِرُ الدَّهْرَ فِي تِيهٍ وَفِـي صَلَـفٍ
وَقَـدْ أَذَلَّ لَـهُ الإِسْفَـافُ عِرْنِينَـا
أَمَّنْ يُهَدِّدُ سَـاقَ العِـزِّ فِـي رَفَـحٍ
وَيَقْبَلُ الذُّلَّ فِي طَابَـا وَفِـي سِينَـا
أَمَّنْ يَقُولُ: أَنَـا حُـرٌّ فَدَعْـكَ وَمَـا
عَذَلْـتَ مِنِّـي مُـوَالاةَ المُعَادِيـنَـا
وَمَـنْ يَقُـولُ: وَلِـي أُمٌّ أَبَـرُّ بِهَـا
وَلا أُعَـادِي الـذِي فِيهَـا يُعَادِينَـا
وَلا أُعَانِـقُ مَـنْ بِالسُّـوءِ يَبْهَتُهَـا
إِلا لأَنِّـي أَبَيْـتُ الـرَّأْيَ مَرْهُونَـا
فَقَدْرُ أُمِّي وَقَـدْرِي غَيـرُ مُتَّصِـلٍ
وَأَمْرُ أُمِّي وَأَمْـرِي لَيـسَ مَقْرُونَـا
يَا مَنْ يُبَرِّرُ بِالأَسْبَابِ كَيـفَ تَـرَى
عَذْلَ الزَّبَرْجَدِ صَلبًا وَالنَّـدَى لِينَـا؟
المَرْءُ يَمْضِي عَلَى دِينِ الخَلِيلِ وَهَلْ
بَرٌّ يُصَاحِبُ فِي عُرْفِ الهُدَى دُونَا؟
وَالحُرُّ يَأْنَفُ إِنْ يُعْـرَفْ بِمَنْقَصَـةٍ
فَكَيفَ يُنْقِصُ فِي العُرْفِ المَوَازِينَـا؟
وَكَيفَ يَقْضِي مِنَ الأَوطَارِ مَا ابْتَذَلَتْ
وَكَيفَ يُفْضِي إِلَى الأَعْذَارِ تَسْكِينَـا؟
حَقُّ المَبَادِئِ فِي الأَحْـرَارِ رَاسِخَـةً
كَمَا العَقِيدَةُ فِـي الأَحْشَـاءِ تَمْكِينَـا
وَلِلعَدَالَـةِ عَيـنٌ غَيـرَ مُبْـصِـرَةٍ
لَيْسَـتْ تُمَيِّـزُ ذَا سَطْـوٍ وَمِسْكِينَـا
وَمَا الأَمَانُ اجْتِنَابُ البَأْسِ مِنْ وَجَلٍ
وَلا الأَمَانَةُ غَمْـطُ الحَـقِّ تَزْيِينَـا
أَلَيسَ مِنْ تُرَّهَـاتِ الحَـالِ أَلْسِنَـةٌ
رَعْنَاءُ تَلْحَنُ فِـي قَـدْرِ المُجِلِّينَـا؟
وَخَائِنٌ يَشْتَكِي مِنْ غَدْرِ أَهْـلِ وَفَـا
لَمَّـا تَسَمَّـى بِأَوصَـافِ الوَفِيِّينَـا؟
قَدْ مَلَّتِ الرُّوحُ لَمْ تُـدْرِكْ غَلالَتَهَـا
مِمَّا اسْتَقَرَّ لَهَا فِي الصَّـدْرِ مَكْنُونَـا
وَضَجَّتِ النَّفْسُ مِنْ حَالٍ تَكَادُ تَشِـي
بِمَـنْ يَسُـلُّ لِسَـانَ الـوُدِّ تَلْقِينَـا
لَهُـمْ إِهَـابُ ثَعَابِـيـنٍ مُرَقَّـطَـةٍ
يَفُـوقُ مَرْتَبَـةَ الحِرْبَـاءِ تَلْوِيـنَـا
يَبْقَى الغُرَابُ غُرَابًا لا يَطِيـبُ لَـهُ
إِلا الخَـرَابَ وَإِنْ سَمَّـوهُ شَاهِينَـا
نَفْسِي فِدَاءُ فِلِسْطِيـن التِـي نَزَفَـتْ
منِهْاَ الكَرَامَـةُ مَقْتُـولا وَمَسْجُونَـا
تَكَادُ تَنْخَلِـعُ الأَنْفَـاسُ مِـنْ فِتَـنٍ
عَزَّتْ عَلَى العَقْـلِ تَدْوِينَـا وَتَأْبِينَـا
قَدْ خَضَّبَتْ مِنْ دَمِ الأَعْرَافِ شِرْذِمَةً
وَخَضَّبَتْ مِـنْ دَمِ العِـزِّ المَلايِينَـا
وَبَاتَ يَعْرِفُ أَهْلُوهَـا إِذِ انْقَسَمَـتْ
مَنْ يَعْشَقُ الفِلْسَ مِمَّنْ يَعْشَقُ الطِّينَـا
يَا لَيتَ شِعْرِي أَلَمْ يَأْنِ اجْتِبَاءُ خُطَى
نَهْـجِ الأُبَـاةِ وَإِقْـدَامِ المُلَبِّيـنَـا؟
وَسطْوَةٌ مِنْ صَهِيلِ السَّابِحَاتِ عَلَـى
السَّيفِ فِي غِمْدَينَ مِنْ ذَهَبٍ
حَتَّى نُجَنْدِلَ مَـنْ بِالـذُّلِّ يَرْمِينَـا؟
وَمَا صَـلاحُ إِذَا ارْتَـدَّتْ فَوَارِسُـهُ
عَنِ البُطُولَـةِ فِـي إِدْرَاكِ حِطِّينَـا؟
كُنَّا وَكَانَتْ بِلادُ العُـرْبِ دَارَ عُـلا
رَقَّـتْ نَسَائِـمَ وَامْتَـدَّتْ بَسَاتِيـنَـا
أَيَّامَ كَانَتْ خُيُولُ النَّصْـرِ مُسْرَجَـةً
وَكَانَ مَنْبَعُ صَافِـي الدِّيـنِ يَرْوِينَـا
حَتَّى دَهَتْنَا القُرَى مِنْ كُـلِّ نَاحِيَـةٍ
وَكَشَّرَتْ عَنْ نُيُوبِ القَهْـرِ تُرْدِينَـا
مَاذَا اصْطِبَارُكِ يَا دَارِي وَقَدْ عَصَفَتْ
فِيكِ النَّوَائِبُ مِمَّـنْ قِيـلَ: أَهْلُونَـا؟
كَأَنَّ لَمْ يَكْفِ مِنْ صُهْيُونَ مَا هَتَكَـتْ
حَتَّى سَقَوكِ الرَّدَى عَونًا لِصُهْيُونَـا
قَالُوا الإِخُوَّةُ فِي الأَوْطَـانِ مُلْزِمَـةٌ
وَلا خِلافَ وَإِنْ هُمْ خَالَفُـوا الدِّينَـا
وَمَا الإِخُوَّةُ إِلا النَّهْجَ مَـا حَفَظَـتْ
فَـإِنْ تَوَلَّـتْ فَــإِنَّ اللهَ يِكْفِيـنَـا
إِذْ قَـالَ نُـوحٌ فَقَـالَ اللهُ فَانْطَلَقَـتْ
تَحْكِي السَّفِينَةُ مَنْ مِنَّـا وَمَـنْ فِينَـا
يَا مَنْ يُحَاوِرُ مَنْ يَخْتَالُ يَخْصفُ مِنْ
صَبْرِ الحَرِيصِ يُوَارِي القَومَ مَا شِينَا
كَيفَ الْتِقَاءُ نَدِيـمِ الكَـأْسِ مُفْتَخِـرًا
بِمَـا أَصَـابَ وَأَتْبَـاعِ النَّبِيِّيـنَـا؟
أَطَلْتَ صَبْرَكَ عَنْ جَورٍ وَعَنْ جَنَفٍ
حَتَّى جَرَى مَا جَرَى فِي يَومِ صِفِّينَا
لَمْ يَرْدَعِ الحِلْمُ أَشْرَارًا وَلا اجْتَـرَأَتْ
كَفُّ الفَسَادِ سِوَى مَا كَـانَ تَهْوِينَـا
وَمَا القَوَانِينُ فِي عَهْدٍ بَغَـى زَمَنًـا
وَلا يَرَى غَيرَ عَضْلِ العَدْلِ قَانُونَـا؟
وَفِي البَوَائِقِ جِلْدِي خَلـفَ أَوْرِدَتِـي
أَقَـلُّ رِيـحٍ مِـنَ الإِنْكَـارِ تُدْمِينَـا
إِنَّ الحِـوَارَ أَرَاجِيـفٌ يُـرَادُ بِهَـا
سَفْـكَ الحَقِيقَـةِ بِالنَّجْـوَى قَرَابِينَـا
وَمَا الحِصَارُ سِوَى بُرْهَانِ مَا اقْتَرَفُوا
فَكَيفَ تُلْجَمُ فِي الـرَّأْيِ البَرَاهِينَـا؟
لَنَـا القَتَـادَةُ مِـنْ أَبْنَـاءِ جِلْدَتِنَـا
وَلِلغَرِيبِ أَطَابُوا الوَصْـلَ نِسْرِينَـا
مَا انْفَكَّ يَرْعَى مَعِ البَاغِي وَلاؤُهُـمُ
حَتَّى اسْتَقَـرَّ بِـوَادٍ غَيـرَ وَادِينَـا
يَظَلُّ مِنْ سَرَفٍ يَسْعَى إِلَى سَـرَفٍ
وَجْهًا وَيَطْعَنُ ظَهْرَ الصِّدْقِ تَخْوِينَـا
لَمْ يَجْزِ غَزَّةَ فِي الحَالَيـنِ غَيـرَ دَمٍ
أَجْـرَوهُ خَنْقًـا وَتَجْوِيعًـا وَتَوهِينَـا
فَلا وَرَبِّكَ لا صُلْـحٌ عَلَـى ضَغَـنٍ
وَلا ابْتِسَامٌ يَرَى التَّقْطِيـبِ مَدْفُونَـا
وَلا تَنَازُلَ لا تَفْرِيـطَ فِـي وَطَـنٍ
سَمَا عَلَى الدَّهْـرِ تَقْدِيسًـا وَتَثْمِينَـا
نُرِيدُ كُلَّ أَرَاضِينَـا التِـي انْتُهِبَـتْ
النَّهْرَ وَالبَحْـرَ وَالزَّيتُـونَ وَالتِّينَـا
وَحَقَّ عَـودَةِ شَعْـبٍ مَـلَّ غُرْبَتَـهُ
وَحَـقَّ دَمْعَـةِ أُمٍّ أُهْرِقَـتْ هُـونَـا
هَذَا نِدَاءٌ لِمَنْ يَأْتِـي الحِـوَارَ جَـدًا
بِصَوتِ كُـلِّ مُصَـلٍّ قَـالَ آمِينَـا
يَا مَنْ جَعَلْتُمْ إِلَى الكُرْسِـيِّ هِمَّتَكُـمْ
خُذُوا الكَرَاسِي وَأَعْطُونَـا فِلِسْطِينَـا