لستُ أدري لماذا أريدُ أن أصقُلَ قلمي ؟ فلي زمنٌ - أظنّهُ طويلاً - لم أكتُب الخواطرَ برأسِ قلمي ، على مساحاتٍ بيضاءَ من صفحاتِ الدّفاتِر المبعثرة .
كم كنتُ أعشقُ لحظاتِ كتابة الخواطرِ في ذلك الزّمن الغابرِ البعيد ، لكأنّي بهِ ولّى . تلك الخواطرُ التي كانت لي ملاذاً إذا ضاقتِ الأرضُ و تجهّمتِ الدّنيا ، فأستلُّ ريشتي و أركبُ مطاياَ سليقتي أخطّ بهما ما يجتاحُ خاطري بقلمٍ أزرق على صفحة بيضاء لا أرفعُ رأسي حتى ينتهي مددُها ، و لا ينتهي مددُها حتى أرفعَ رأسي .
و لتلك الخواطِر المحترقة قصصٌ مثيرة مؤتلِقة ، فكنتُ إذا ناوبتني الأحزانُ و الاشجانُ أعودُ إليها ، فما أقرؤها إلاّ و قد أفضَتْ بي الى راحةٍ مشابهةٍ تماماً لتلك الرّاحة التي وجدتها حالِ فراغي من كتابتها ، كأنّما وُلِدتْ جديدةً حديثةً .
و خواطري القديمة على كثرتها ، لم تكن للنّشر ، بل كانت لي وحدي . و ما عرفتُ نفسي أكتبُ لغيري زمناً طويلاً .
و خواطري التي كنتُ كلّما مرّت عليها فصولٌ جمعتُها ، و جمعتُ دفاترها و أوراقها المتفرّقات في يومٍ مشهود و أوقدتُ لها ناراً أحرقُها واحدةً تلوَ الأخرى على شرَفِ الهمومِ التي لم تمُتْ رغمَ استماتتي في قتلِها على أعتابِ أوراقي و كلماتِي و خواطري ، بل على العكس كانت همومي مع الايّامِ في ازدياد .
و كأنّني إذ أحرقُها ، أعاقِبُها و أخاطبُها : - ما نفعُكِ إلاّ التأريخَ لمزيدٍ من جراحاتي و محاولاتي العاثرة . و كأنّني أحاولُ أن أجعلَ لها حدّاً ، و لي عهداً ، فلا أكتبُ من جديد .
ثمّ تمرُّ أيّامٌ و أيّامٌ .. فأجدُني أمام دفترٍ جديد صفحاتُه البيضاء مغرياتٌ ، و خواطري المتلجلجة بصدري المثقلُ بأعبائهِ مزعجاتٌ ، لا تريدُ أن ترحلَ عنّي إلاّ على نعوشٍ من حروف و كلمات .. فأحملُ قلمي تحت نجومِ السّماء أطالِعُها بنظري .. أحسُّها تهمسُ لي أنّ الإنسانُ أفسحُ عالماً و أكبرُ حريّةً من هذه الأقفاص و القضبان و الجداران التي تحيطُ بنا و تحاصرنا .. و أحملُ قلمي تحت طرقِ ضغطِ أشجاني ، و بركانِ وجداني ، تلك الأشجانُ التي تريدُ أن أطلِقَها تعابيراً و بوحاً لتستريح و معها أستريح .
و أملأُ دفتري ، صفحاتٍ صفحات .. أقلّبُها مع الايّام ، لها لذّةٌ و نشوةٌ في قراءتها من جديد سحريّة عبقريّة ، أعتزُّ بها كلّما زادتْ و تراكمَت كأنّها كتابٌ ، و لكن كتابٌ من بنيّاتِ افكاري و خواطري و إملائي .. و لا يدورُ عليها الحولُ إلاّ و قد جاءَها موعدُ الحرقِ العظيم ، كأنّه يومٌ من أيّام القرابين في قصص الشعوب و أساطيرهم .
فنجتمعُ معاً ، أنا و خوطري من جديدٍ حولَ نارٍ هادئة أحرقُها واحدة واحدة . فيالها من مأساةٍ !
و أذكُرُ أنّهُ ذاتَ مرّة قرأتُ لصديقٍ بعض خواطري ، كانَ هذا الصّديق من أصحاب الفنّ و الخواطر و الذوق ، و حكيتُ لهُ قصّتي مع الخواطر الغريبة . و كان رسّاماً فنّانا ، فأهداني دفترا جديدا و ضع على غلافه المجلّد نصف ورقة محترقة ، و زوّقَ و اجهته تزويقا و كتب عليه كأنّه عنوانُ كتابٍ : " أوراقٌ لا تحترِق .. " . و كتبَ على صفحتِه الأولى إهداءً : يقولُ أنّ هذا الدّفتر لخواطرٍ لن تحترق . لإنسانٍ عقلُه و قلبُه محلّ الخواطر .
فأذهلَني ذوقُ الصّديق و فنّه ، و أسعدتني هديّتهُ و نبلُه . و لكن !!؟؟
صحيحٌ أنّني ملأتُ الكثيرَ من صفحاتِ ذلك الدّفترِ من خواطري البرّاقة الأرّاقة . إلاّ أنّه لّما دارَ عليها الحولُ و دعاها داعي الواجب لتكونَ قرباناً من قرابينِ لحظاتِ جنوني ، لم يشفَع لتلك الخواطرِ حصانةُ الدّفترِ المزوّق ، و الصّفحة التي على غلافِه المحروقة . بل لحِقتْ سابقاتها و احترقَتْ .
تلك هي قصّة خواطرٍ و أوراقٍ لا تحترق ..
كانَ هذا في زمنِ الشبابِ النّضرِ .