ساعةٌ مَا عَلى وشْكِ الصُرَاخِ.
مُدُخَل...
رُبما أصبَحتْ اللُّغةُ من الفقرِ بما لا يَسْمحْ لها بترْتيقِ الجُرْحِ, أو هو الجُرحُ عمقُه؛ لم تصلْ لحدودِه دِلاءُ اللغة, ورُبما التهمَ الليلُ بَوحَ العشاقِ, فتوقفُوا منذُ بَعيدٍ عن الحُلمِ, ورُبما هناك أملٌ... رُبما.
الواحدةُ بَعدَ مُنتصَفِ الحَرفِ...
أَيَا قَلَمِي! أَدرِي أنَّ من أَسوأ عاداتِكَ السفرَ في فَراغاتِ مَرايا الكلِماتِ المُتكسِّرة, والمغرُوسة شَظاياها في قَلبِ التخفي, في قَلبِ حَنَايانا المُتعبة. أَعرفُ أنكَ أدمنتَ التِّرحَال في فَضَاءاتِ اللُّغةِ الجَريحَةِ, تبحثُ لكَ ولها, عن حُلمٍ... عَن وَطنٍٍ... أو منفى. تتمردُ... تتشرد, تنشغلُ برائحة صوتٍ بعيدة تُفتقُ جراحكَ؛ جُرحٌ يُنشدُه جُرحٌ, لتُجرجر خُصلاتِ عِباراتٍ نَائمةٍ على خدِ الطَّرُوس. تتأنقُ... تتنمق, تُداعبُ وجناتِ الضوءِ في ممراتِ القصِيدة؛ على أرْصِفةِ المَجاز؛ في عُيونِ الخَيال, وبينَ ثنايَا المَكْنيات. تغفُو.. تصحُو, ترحلُ... تزرعُ المطرَ في قلب الخواطر, وتغسلُ الجُرحَ بِضوءِ الحُروفِ الغَافيةِ على كَتفِ قَوْسِ قُزَح.
الثَّانيةُ بَعدَ مُنتصَفِ الحَرفِ...
أيا قلمي! أيُها اليتيمُ! مَنْ تبقى لكَ من أهلٍ كانوا... سِوى أُمكَ؟ تلكَ النخلةُ العتيقةُ الواقفةُ في وجه أحبارِ المستحدثاتِ المتناثرةِ تحت سنابكِ الأصالة, تتحَدى بِِجذعها المعتقِ بترابِ العربِية؛ رِيحًا تهبُ من قلبِ سِنديانٍ مبللٍ برمادِ التطفل. لم يبقَ لكَ غيرَ مِدادكَ؛ ذاكَ النهرُ المتأرجحُ فوقَ جفونِ الشمسِ, يَحتمي مِنْ لظى الهَجيرِ بفَراغِ الصَّمتِ, وينسابُ داخلَ مَآقِي القمَرِ مُقتفيًا آثارِ كَلِمَاتٍ ابْتلعَتها حَناجرُ الرِّمَال, وأَتْخَمتْ حواشِيها حصياتٌ مشوهةُ التفَاصِيل.
الثالثةُ بَعدَ مُنتصَفِ الحَرفِ...
أيا قلمي! أيها المحاربُ الأنِيق, العائد من فوق عُدْوَتِكَ القُصوى, تُعددُ هزائِمكَ وتُحصِي جِرَاحَكَ. غَنيمتُك شُروخٌ في الرِّوحِ, وخرَائِبٌ تَزْعَقُ بينَ جُدرِ الفؤادِ المتهمِ بالعِشقِ. لا خاتمةً لدهشتكَ المُتسلِقة أدراجِ السواد, ولا نهاية لطوافكَ المحمُوم حول عُيونِ الليل. لم يعد هناك بدٌ من طلبِ المِدادِ؛ لحشرجاتِ أنامِلنا المُتعلِقة في أعشاشِ الأفكار؛ لتعثراتِ أصواتِنا الضائِعة في عَوِيلِ الذِّكرَيات؛ لتأوُهاتِ أورِدتنا النَّابضة في قلبِ حرِيقِ الأبجدِية.
الرابعةُ بَعدَ مُنتصَفِ الحَرفِ...
أيا قلمي! أيها النائي بِحِملكَ, والقاصي بما جَرَحْتَ ليلًا وليال! لا تقرأ صفحة الغيبِ, ولا تحتضن شعلة الوهم, لا ترتق جروح الحقِيقةِ, ولا توقظ معلقاتِ الشِعرِ, بل امدد ذِراعيكَ؛ مستقبلًا لفح التعري الهارِب من تفاصِيلِ الظلالِ؛ مستقبلًا همس الترجي التائه فِي همهماتِ الضِياءِ؛ مستقبلًا نفح الترقي العالق بأطواقِ السحابِ.
الخامسةُ فجرَ الحرفِ...
مِن قلمي إليكَ... صرخةُ اعْتِرَاف.
ها هو قلبِي يا قلبِي - المنبعثُ بعد موتِه- يلهثُ شوقًا كي يسكنَ عُشَّهُ الرابضَ بينَ أضلعِكَ: عشٌ بنيتُه أنا في صمتٍ, وحَمَلَتْ قشاتَه جفونِي؛ قشة من اشتِياق وقشة مِن حنين, وسقفتُه بقشيباتِ احتياجِي الهاطِلِ أناتٍ في صدرِي؛ أناتٌ لم تتوقفْ منذ ابتداءِ العمرِ ضياعًا, ولم تتوقف بعدَ لُقياكَ إلا منصهرةً مع نبضكَ, هادرةً فيه: أهواك.
ها هو عمرِي يا عمرِي- العائدُ بعد فقدِه- يغسلُ وجعه بصوتِك السابحِ فيه لوعًا, ليجرِف من شواطِئِه تلالًا من ملح العذاب, ويزرعُ في سمائه غيمًا لا يتوقف مطرُه, عن تطريز عينيَّ ونقشهُما بشذى جواكَ.
ها هو قلمي يا ملاكًا – أتى يكفكف جِراحي- يستسقي مِداده من مُخملِية وُرْقٍ صادِحٍ فِي عينيكَ الحانِيتيْن, لتتفتح في رُوحِي جناتٌ من وردٍ؛ تهمسُ وُريقاتُه مع نجومِ الليل همسةَ خُلودٍ لا تكُون إلا لكَ, وبِكَ ومِنكَ: أُحبُكَ... يا ذاكَ المَلاك.