* صراع * إلى شهر آذار
خرج من البيت مسرعًا إلى عمله بعد أنْ قضى الليل أمام التلفاز ، تأخر كثيرًا عن الموعد ، صعد الحافلة المكتظة عن آخرها ، الوجوم يخيّم على وجوه الحاضرين وكأنّ على رؤوسهم الطير و الآذان تصغي لمذيع لم يعد يدري بحجم المآسي التي يتسبّب بها أولئك الواقفون من خلفه . هبط من الحافلة بسرعة الضوء ، ودلف إلى مكتبه مثل القذيفة ليجد المدير في انتظاره وقد تورّمت عيناه واحمرّت كشرار انطلق من قنبلة ، تلقى بضعة صواريخ في وجهه وانتهى الأمر بإنذار شديد اللهجة ثمّ غادر عمله وهو يشعر بأنّه أكبر سنًا من هرم خوفو ، مشى على غير هدى ثمّ شعر بعطش شديد فتوقف عند بائع عصير ليروي ظمأه ، لم يكتفِ بكوب واحد و طلب كوبًا آخر وأخذ يرتشفه ببطء شديد نقطة نقطة ليغرق بعدها في نفسه وهو يراقب طفلًا يداعب أباه على مقربة منه .
أكلته الحسرة وهو ينظر إليه وإلى حاله ، ثمّ سرح بخياله بعيدًا ليستفيق بعدها على وقع خطوات فتاة جميلة مرت من أمامه ، أطال النظر إليها تمنى لو تنظر إليه ؛ باءت أمانيه بفشل ذريع فأشاح ببصره نحو الطفل مرّة أخرى يراقب ابتسامته العذبة وصدره يضيق به يكاد أنْ ينصهر ، أنهى الكوب وتابع سيره ، لم يترك شارعًا في المدينة إلا وعبره ، وظل هائمًا على وجهه ، ولم يدرِ بنفسه إلا في الصباح وقد تكوّر على نفسه مثل عصفور مبلّل وقد التحف السماء وافترش الأرض ليبدو لمن يراه كطفل صغير وهو يحتضن قبر أمّه .