همسة
عذرا لكل طفل قد تخيفه حكايتي هنا.
.
لم يكن طائر السنونو يدرك عندما غادر الجنوب نحو الشمال، أنه سيلتقي بفلاح أخر يشبه ذلك الذي فر منه، نظر من السماء نحو الأسفل، تعتريه رغبة في ضم هذا الحقل من السنابل، والتي تبدو كموج فقد بعض الروح، فبدا هادئا بغير حراك. أمعن النظر إلى السنابل تخيلها غارقة في أحزانها، وتخيل نفسه سيغرق فيها بعد حين، وما هي سوى لحظات ،حتى هبت نسمة ريح جعلت السنابل تتنفس من جديد وتتمايل ذات شمال ويمين، وكأنها تبحث عن روحها الفارة منها ،في لحظات الهدوء التي سبقت هبوب هذا النسيم الذي جعل السنونو يتمايل معه بالمثل ويرفرف بجناحيه الصغيرتين، عكس هبوب الريح محاولا اكتشاف قوة النسيم، وهو يتخيل نفسه يتحول لنسمة ريح كي يغرق بهدوء في حقل الزرع كما يفعل النسيم. اقترب من السماء نحو الأرض بهدوء، وكأن الزمان والمكان ملكا له. على غصن شجرة مائل قرر أن يبني عشه، فغالبا ما يتجنب الأشخاص المرور تحت الأغصان المائلة .هكذا فكر الطائر وهو يقف بزهو فوق الغصن ويغرد سيمفونيته، التي بدأها هناك ولم يتمها لأن فلاحا من الجنوب فتح باب حقله أمام أطفال أبنائه ،كي يقضوا عطلة الصيف في مزرعته، ومع مرور ساعات قلائل من ذلك اليوم المشئوم قرر طائر السنونو مغادرة الحقل. ولو كان قد اتخذ قرارا أخر لكان الآن في بطن أحد أولئك الأطفال. مازال في الزرع بعض الروح برغم هذا الهدوء المطبق على المكان، وكأن الحياة انعدمت هنا بعدما كانت قد تمادت هناك، استرسل في ابتداع سيمفونية جديدة وهو يحضن الفراغ بجناحيه الصغيرتين، يتخيل نفسه يلتقط حبات الزرع من كل سنبلة، فكل سنبلة سوف تصبح ملكه، سينقض عليها في ساعة خلوة، وعندما ينتهي منها سيتركها ليبحث عن سنبلة أخرى، وقد تعترض سنبلة أخرى طريقه دون أن يبحث عنها ،سيكون الحقل ملكه وسيبتدئ حياته هنا ،غير أن طائر السنونو لم يكن يعرف أن فلاح الشمال يشبه فلاح الجنوب في حبه للسنابل وعشقه لها. مر نصف اليوم وفي النصف الأخير منه ،خرج الفلاح من بيته يحمل بيده مقلعا ،توجه نحو الحقل وامسك بأحجار من الأرض وضل يبحث عن فريسته هنا وهناك. وما هي سوى لحظات حتى وصلت سيمفونية السنونو لمسمع الفلاح، لم يكن السنونو يذرك انه ينشد سيمفونية الوداع، ولم يكن يذري أنه ترك الجنوب ليموت في الأرض الشمالية، ولم يكن يذري أن البشر يتشابهون، وأنه قطع نصف الوطن بحثا عن أرض يموت فيها عوض الحياة، عندما كان طائر السنونو على وشك أن يتم سيمفونيته، هبت نسمة ريح جنوبية جعلت السنابل تتمايل بقوة ذات يمين وشمال. مسكينة تلك السنابل تارة تموت من الصمت وتارة تموت من الصخب ،وما هي سوى لحظة حتى كان طائر السنونو يسقط من على الغصن المائل نحو حضن السنابل ،عانقته بقوة وتبسم لها وهي تعانقه، وعانقها بدوره وفي لحظة أخرى رمت سنبلة بحبة منها في فمه، وما ان التقطها حتى أمسك الفلاح بجسده الهزيل والتي تكاد الروح أن تفر منه وهو يقول: ستكون وجبتي اليوم .انهي كلماته بابتسامة وأنهى السنونو رحلة حياته بحبة سنبلة التقطها في لحظة فرار الروح منه دون أن تترك له فرصة معانقة جدع السنابل والتلذذ بطعم حباته، سقطت الحبة من منقاره نحو الأرض وهي تجاهد لأجل الحياة، واستقرت في بطن الأرض .مر موسم الحصاد وذات يوم ربيعي خرجت سنبلة من بطن الأرض لتعانق الفراغ ولتحكي لباقي السنابل حكايتها ...