المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د. سمير العمري
الأخ مسعد:
الأخوة الأفاضل:
أشكر لك بداية طرحك لهذا الأمر الذي بات معضلة أساسية تحتاج حلاً أو على الأقل تصوراً مقنعاً ومنطقياً إذ لا يستقيم أمر دون حوار مثمر بناء ودون استيعاب لتباين الأراء ودون تجرد وبحث عن الحق والحقيقة. وأوافقك أخي في تفشي ظاهرة الجدل غير المثمر لأسباب قد نعود لها بالتحليل لاحقاً.
ولعلي أبدأ بأن أشير إلى أن عدم القدرة على الحوار هو ما أودى بالأمة في مدارك الردى وأورثها الضعف والجهل والهوان. بل إنني أرى أن عدم القدرة على الحوار مع النفس ومع الآخر أضاع الدين والوطن والقيم.
الحوار قيمة إسلامية
لقد نصت آيات كثيرة في القرآن وأكد ذلك الكثير مما ورد عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى:
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125)
وفي هذه الآية الكريمة يتحدد المنهج العام للحوار واستقصاء المعاني الكبيرة والقيمة التي تحملها حروف هذه الآية يحتاج الكثير ولكني أستعيض عن الاستفاضة بالتوضيح السريع لمعالم منهج الحوار وفق التصور الإسلامي بما يجعله أصدق وأعظم وأكرم حوار يجدر أن يتبع.
أولاً يجب أن تكون الدعوة إلى سبيل الله "ادع إلى سبيل الله" وسبيل الله أوسع وأشمل من فهم قاصر في أذهان البعض بأنه الصلاة والصوم فحسب أو الحج والجهاد فقط. إن سبيل الله هو سبيل الحق فالله هو الحق ذو القوة المتين وهو سبيل الحياة وسبيل الممات ومنهج الدنيا والآخرة. فالدعوة إلى سبيل الله تتناول كل مناحي الحياة بمفهوم أن الله ما خلق الكون عبثاً وأن الإنسان ما خلق للهو واللعب بل لعبادة الله الواحد الأحد بالقول والفعل ، والعبادة أيضاً يتسع مفهومها لأكثر من الشعائر فالعمل عبادة والتفكير عبادة والزواج عبادة والأكل عبادة والتبسم واللهو الحلال عبادة.
ثانياً يجب أن تكون الدعوة "بالحكمة" وهذا باب كبير يتناول الكثير والكثير. الحكمة ؛ كلمة واحدة تشمل التفكير والعلم والطب والفطنة والفراسة والدراية والقدرة على تقدير الأمور والظروف العقلية والنفسية للمتلقي. فالحكمة إذن ركن أساسي من أركان الحوار الراقي فلا يمكن لخائض أن يخوض في حديث لا علم له فيه ولا أن يتدخل في أمر لا يعنيه ولا يجد فيه له قولاً ولا رأياً. هذا الأمر هو واحد من أهم ما أودى بالحوار إلى الهاوية إذ ترى الكل يدعي تمام المعرفة فيتحدث من لا يعرف كيف يتوضأ في العقيدة والتفسير ويفتي بما شاء ، ثم يأتي من لا علم عنده ولا دراية في أمور الطب فيشخص الداء ويصف الدواء ، ويأتي من لا علم عنده في لغة أو أدب فيصدر نفسه ناقداً للشعر والنثر ومفسراً للغة. لا يعني ما أقول أن هذا الأمر حكر على أناس دون غيرهم ولكني أقول بأن من شروط الحوار الحكمة وهي كما أوضحنا أكبر حتى من مجرد العلم.
ثالثاً يجب أن يكون الحوار "بالموعظة الحسنة" وهذا شرط مهم في منهج الحوار يتناول حسن اختيار الحجة أو الدليل والتجرد من المصلحة بحثاً عن الحق والحقيقة وهذا لا يتحقق إلا لمنصف جاد لا يستعرض قدراته على الإقناع بالتضليل سواء أكان يعي ذلك أم لا يعي. الموعظة الحسنة هي ما تشعر من يتحاور معك بصدقك وحرصك ويدفعه للحوار بقلب مفتوح وعقل متفتح.
رابعاً أن يخضع الحوار لأدب الحوار كما ورد في الآية "وجادلهم بالتي هي أحسن" إنه ترسيخ لأسلوب المسلم في الحوار فهو حوار لا تطاول فيه ولا تنابز ، ولا فسوق فيه ولا تخالف. إنه الحوار بحسن الخلق والحرص على أن يكون الحوار في كل مرة بالتي هي أحسن أي أنه لا يكفي أن يكون حسناً بل يجب على المحاور أن يبحث عن الأحسن والأنسب في كل مرة.
خامساً ما أشار إليه الحق تعالى من أن على المرء الحوار وتقديم الدليل والحجة وأن يتعامل المرء بالظاهر الصادق فلا يؤول ما يقبل تأويلاً ولا يحرف قول محاوره عن إطاره إمعاناً في التضليل أو بحثاً عن التفوق إذ لا يحق للمرء أن يشق على قلوب العباد لأن هذا هو أمر الله وبهذا جاء قوله "إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين".
هذه هي الأركان الخمس للحوار وفق المنظور الإسلامي بما نصت عليه هذه الآية الكريمة والتي تحتاج كتاباً لتفسيرها بشكل مستفيض فيكون فيه المرجع لأفضل مناهج الحوار الإنساني.
أسلوب الحوار
يتلخص أسلوب الحوار في هذه المحاور الثلاثة:
أولاً اللين والود:
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159)
هنا يوجه الله الخطاب إلى الرسول الكريم فيأمره بالعفو والاستغفار والمشاورة ويذكره بلين الجانب والبعد عن الفظاظة وغلظة القلب. الله خالقنا وخالق كل شيء وهو الأعلم بنا يشير إلى إمكانية أن ينفض المؤمنون عن الرسول عليه السلام لو لم يكن معهم ليناً كريماً ودوداً يعفو عن مسيئهم ويستغفر له ويشاورهم في أمر الأمة بلين ورفق ، أليس أحرى بنا نحن أن نتعلم من هذا وندرك أن حسن الخلق ولين الجانب ووضع العذر حتى لمن أساء هو أهم أسس الأسلوب الناجع للحوار؟؟ إن العاقل ليتأمل فيدرك.
ثانياً: البصيرة:
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108)
لا يكون أسلوب الحوار ناجعاً ومثمراً بلا بصيرة توجهه أو فكر يقوده. لا يمكن أن يكون الحوار بالعاطفة فحسب بل إن العقل والمنطق هو ما ينجح بالحوار. العاطفة لا تقوم إلا على الهتافات والشعارات تلك التي لطالما أوردتنا المهالك وأزرت بنا. إننا بحاجة إلى الحوار على بصيرة بمنطق سليم وفكر قويم وإلا فلا ضرورة له.
ثالثاً: ضرب الأمثلة لتقريب الصورة:
(إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) (البقرة:26)
وهذا منهج الله الذي أقره فلا يزال يضرب الأمثلة ليقربها إلى الأذهان. الجدير بالذكر في هذا المقام أن ضرب الأمثلة مع من لا يميز الخبيث من الطيب ولا يرى في الكون سواه لا يثمر خيراً فتجد المحاور بل لنقل المجادل يترك أصل الموضوع ليمسك في تفاصيل المثل ويخرج الحوار عن إطاره. هي إذن موهبة يجب على المرء أن يتعلم الممارسة عليها واختيار مضمونها وتوقيتها فهي تمثل تعبيراً عن التوجه والرؤية وتعلن عن المنبع الذي يستقي المحاور منه فكره ودعواه. ولعلي هنا أشير لأمثلة ضربها أخي الكريم مسعد ليوضح الصورة ولكنها كشفت هنا عن المنبع الذي يستقي منه فكره ولست هنا إلا أضرب المثل وإن كنت تمنيت لو ينتبه المسلمون إلى كنوز معرفتهم وعلومهم فيحيوها بدل أن يتركوا الجهلة يميتوها بجهلهم.
أدب الخلاف
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:64)
هي الكلمة إذن التي بين المتحاورين. كلمة سواء لا باطل فيها ولا ضلال. إن الحوار هو السبيل الوحيد لنشر الفكر وتلقيحه وإحقاق الحق وإزهاق الباطل ولقد ضرب الله لنا المثل تلو المثل في القرآن وصرف للناس من كل مثل. فلنتذكر مثل ما فعل سيدنا إبراهيم يوم وقف أمام جبروت النمرود يحاجه حجة بحجة لا سباباً بسباب أو تسفيها بتسفيه حتى بهت الذي كفر وانتصر الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً. قال تعالى:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258)
وإذا كان الله تعالى قد حاور الشيطان الرجيم فكيف لا أحاور أخواني من المسلمين وغيري من غيرهم؟ يقول تعالى:
(قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (صّ: 76- 75)
إن الله تعالى يجسد لنا هنا المنهج في الحوار مع الجميع وإن كانوا أعداء بما يكون فيه نتيجة تنفع الأمة أو تحقق المصلحة للبشرية. ولعلنا نسوق مثلاً مما حدث في قصة البيعة تحت الشجرة عندما حاور الرسول عليه السلام المشركين الأعداء يومها واتفقوا على ما رأى فيه مصلحة الأمة وما رأوا فيه مصلحتهم. ونذكر كيف رفض عمر هذا الصلح وحاور النبي حتى أقنعه بالحجة.
هذا هو السبيل الحق الذي يدعو الله المسلمين للعمل به. وهذا هو سبيل الحوار الأمثل والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة على بصيرة لا بالهتافات والعواطف وردود الأفعال.
هذا والله أسأل أن يلهمنا ما فيه الخير والسداد.
وسأعود إلى رد أخي الكريم الحر مفنداً متى سمح وقتي بإذن الله.
تحياتي وتقديري