أود أن أدرج هنا نقدا للقصيدة كتبه صديق ناقد وأديب مبدع ، وهو الأستاذ سحبان مشوح ..
وردا لي على نقده .
وأريد أن أنبه الإخوة إلى أن نقد الأستاذ سحبان كان بعد إرسالي إليه قصيدتين هذه إحداهما ، ولكنه ركز في نقده على هذه و أشار إلى الأخرى ضمنا حين استخدم ضمير التثنية إشارة إلى ( قافيتيّ ) في مطلع رسالته البليغة ، وفي ختامها حين أورد بيتا منها هو : ( يا إلهي وحبيبي وطبيبي ومعيني ) .
نقد الأستاذ سحبان :
أيها الشاعر .. بل يا أخا الشعراء .. وحامل لوائهم إلى الجنة إن شاء الله1 ..
هذه وقفة عجلى بين يدي قافيتيك .. حيث تحلقان بي إلى سمائهما .. فليس لي أن أرتقي وحدي من غير شك أو ريب .. وسط انشغال فكري ومعمعة فقهية ومعترك أصولي .. حيث رغب إلي صديق عزيز مساعدته في بحث حول الفروق الفقهية ونظرية التجديد .. فاعذر سطوري وما شابها من اضطراب وعجل .. تسير إليك خجلى يغشاها العُثار .. وما كان منها ذاك إلا ارتعادة بين يدي قافيتيك .. فدندن إذا وصلتك .. بقول الجواهري:
كم هز دوحك من قزم يطاوله
فلم يطله ولم تقصر ولم يطلِ
ثم اسمع قول شيخنا المتنبي:
لم يحك نائلكَ السحابُ وإنما
حُمَّت به فصبيبها الرُحَضاء2
في هذه الوقفة .. نقد علمي .. ونقد "رومانسي"3 .. ولا سبيل لمثلي أن ينقدك وإنما هو رأيٌ بإعجاب وتقريظٌ برغبة ورهبة ...
لقد أتيتَ في قصيدتيك ببناء تعجز عنه " العرامس الذلل "، وبسبك شعري وشاعري يُخرج الركين الرزين عن وقاره .. حتى لتحسبه لشدة ما اعتراه .. متدلِّها أو مخمورا.. وما به من ذلك شيء ...
فبناء قصيدتك ساحر فتان .. يضطرب اضطراب الفنن الفارع .. بين نسيم "العبارة" العليل .. وحين يعتليه طائر "المفردة" الصدّاح ...
إلا أني أردته عربيا أصيلا لا تداخله فنون الآخر مهما جملت .. فلا حاجة بنا إلى التفريع بقولك: "وفحيح أسئلة تؤرقني .. ومجامع الجهال ترجمني" وضع ما تحمله هاتان العبارتان من معان في قالب عربي موروث .. مع ما في عبارتك من فن وإبداع ...
لمفرداتك رنين خاص ووقع شهي على نفس المتذوق لأدبك وفنك، ولقاموسك انفساح عريض على معاجم اللغة لا يضيِّق من سعته إلا استخدام كلمات دون مستوى القصيدة، أو وضع واحدة كان غيرها أولى منها في موضعها .. فمن ذلك قولك: "مصامدتي" فعلى الرغم من صوابه في مكانه إلا أن شاعريته دون شاعرية القصيدة، وكذلك قولك: "فاغية" فكأنها مستجلبة إلى مكانها قلقة في موضعها من حيث المعنى .. فالفغوة والفاغية هي الرائحة الطيبة، أو نَوْر كل نبت، أو نبت خاص، فأن يكون لها حضن ولو على سبيل المجاز أراه اعتسافا وتكلفا في المعنى .. على الرغم من جمال هذه الكلمة في موضعها التصويري الهائل .. كما أنني لم استطع أن أرى الليالي سوداء وشمطاء في آنٍ .. إلا إذا أردت مزج البرق بسوادها .. حينها كان يجب أن يكون البرق فيها أصيلا لا مسوقا .. وقد استخدمت كذلك: " أكابد السهدا" وهو تعبير لاكته ألسنة الناس كثيرا .. ولست أدعو إلى استخدام الغريب .. ولكن خيالك المحلق واطلاعك الواسع وحصيلتك الكبيرة .. قادرة على خلق تعبير شاعري جميل وجديد .. ولك أن تحلق في إبداعك كما تشاء .. وكيف تشاء ..
وما أروع قولك:
صحبي : الليالي السودُ :
ساحرةً شمطاءَ تزجي البرق والرعدا
والحزنُ : تياها بـمِـنْجَلهِ
سكران يحصد مهجتي حصدا
والشك أعيا العقل همهمة
تفري النهى وتشتت الرشدا
والخوف - ملء الأفق - يوعدني
ويشق لي في جوفه لحدا
والشعر – مُهْترئا - يمزقني ! ..
فهلَّا عرفتنا أكثر بصحبك هؤلاء .. وهلا قلت لنا فيهم قولا بليغا يجعلك أعظم من تحدث عن الليل إذا ادلهم، والحزن إذا تغشم، والشك إذا تلبس، والخوف إذا أوعد .. أما الشعر .. فقد قلته هو .. وكفانا ما قلته ...
وانظر إلى قول تميم البرغوثي وهو شاعر مقدم، وصاحب نظم رائع رائق:
أنا عالم بالحزن منذ طفولتي
رفيقي فما أخطيه حين أقابله
وإن له كفا إذا ما أراحها
على جبل ما قام بالكف كاهله
يقلبني رأسا على عقب بها
كما أمسكت ساقَ الوليد قوابله
ويحملني كالصقر يحمل صيده
ويعدو به فوق السحاب يطاوله
فإن فرَّ من مخلابه راح هالكا
وإن ظل في مخلابه فهو آكله
فانظر كيف أرانا الحزن – بمنظاره هو – وصوره لنا حتى ما يخطئ أحدٌ أن حزنَه متلفُه لا محالة .. غير أن فرقا هائلا بين كنانة مفرداتك، ومنظار تصويراتك، وبين ما عند الرجل .. بلا بخس ولا تطفيف ...
وفي قولك البديع: " ومللت هذا الناس ما فتئوا يتقاصفون الجهل و الحقدا "
وما قبله وما بعده .. من روائع تسجل في مقولات الخالدين .. وهنا تختبئ كثير من المعاني كان حريا أن تتضح وتعلن عن نفسها .. لو أرخيت لها اللجام ...
أيها الساحر .. فتنت لبي بقولك: " حيرانة التحنان لا تهدا " .. أي لسان تثنى فنطق بها .. وأي شفاه اضطربت فلفظتها .. لا .. فهذه لا تلفظ .. بل تلتقط لترقى إلى سماء الإبداع .. وهناك تحتل مكانا عليَّا لا ينازعها غيرها عليه .. وانظر إلى كلمة "حيرانة" .. نعم .. هي حيرانة أشد الحيرة .. بين إطراب ونياح .. إطراب لك وللفاتنة إلى جانبك .. وبين نياح على هلكى النفاق والجهل والحقد هناك ...
أيها العاشق .. "أتحبها جدا" .. أتعشقها "عشقا كنفح العطر أو أندى" .. والله إنه لعشق رقيق .. فهل تعشقها كذلك حقا؟ .. وكالليل؟ .. ووالله لا يستعلن هذا الحبُّ الطاهر الرقيق إلا في ليل خفي .. فهل يبدي لك شيئا لا نراه؟ ..
ثم ما أقسى تعبيرك على أنفس العشاق .. " سنن الذبول الصم لا بدا "
أيها الباسق .. سأتوقف هنا .. فقد أرهقتني صَعودا ...
ثم استمع إلي حين أقول ...
أتسائلها وأنت تعرف الإجابة ؟!.. أم أن حسن ظنك بالأنثى وشوقَك المتأجج إليها قد ألهمك غفلة طويلة المدى، عميقة الأثر ؟.. أم أن عشقك لها وهُيامك بها .. قد أورثك خُمارا غطى على بصرك وبصيرتك ؟.. أظننتها ساهرة هنا .. تنتظر رحمةَ جفنيك بك .. علَّها تجود بلحظة إغماض ؟.. أم أن قلقا عراك .. فتنازع نفسَك ثورةٌ وخضوع .. وكبرٌ واستكانة؟.. أم هو حبٌ مكين .. غلبك على نفسك .. وفتنةٌ لا مفرَّ منها .. عشيَتْ بها بصيرتك .. فلم تعبأ بإجابة .. ولم ترغب بمعرفة ؟.. بل لم تبق منك مُنّةٌ سوى شيءٍ من صبر .. وبقيةٍ من جلد...
وأيُّ صحب أولئك حولك ؟!.. أم أيُّ خلان هم الذين يرافقونك أو ترافقهم ؟! أهم أشرار تلوذ منهم بقافيتك ؟!.. أم هم ملهموك هذه القافية .. تجمع من خصائصهم ما بين سُدفة ليل بهيم، وتلبُّث حزن مقيم، وحيرة شك عقيم، وسكرة موت تسلب السكينة والقرار، وتبدل الحيرة والبوار ؟!...
أمَّن تلك الفاتنة التي سكبت في روحك هذا الحب ؟.. ومن تلك التي سقتك ذلك الشهد الحلو ؟.. ومن تلك التي ألقت في روعك هذه المعاني .. فكرهت هذا النفاق الراسخ، وذلك الحقد المتأثِّل في قلوب أناس حولي وحولك فجرى مع دمائهم وفي عروقهم .. حتى رغبتَ إليها بهذا المنتأى وذلك المعتزل .. ليس حولك وحولها سوى ذات طوق غلبتها الحيرة .. فأرسلتْ لحنها اللهيف وشجوها الرهيف .. تهديك طربا مُنْعِما هنا لا تبالي هي به .. وتنوح هناك على أناس هلكى بنفاق أولئك الأقوام وحقدهم ؟!...
ثم .. أحقا تحبها يا سيدي ؟.. ذلك الحبَّ الذي تخطَّى الموت وأفناه، وأدرك أدهار الإنسانية دون أن يشيخ أو يهرم، وعرف النهار بجلبته فاستتر .. والليل بسكناته فاستعلن، وخالط أجساد الناس وأبشارهم، وتلبَّس أرواحهم وقلوبهم، واضطرب بين ضلوعهم وفي صدورهم، وتعلَّق أناسٌ بأردانه وأطرافه .. وتعلَّق من الناس شيءٌ فيه .. فتوهموا تغيُّرَه وتحوُّلَه ؟!...
ذلك الحبَّ الذي تهتَّكت أرواحٌ من حوله، وابيضت عيونٌ بدموعه، وزفرت صدورٌ بأنَّته، واضطرمت قلوبٌ بناره، فما بالى .. ولن يبالي ؟!...
أعتقدت أن الحبَّ شافيك .. مما ألمَّ بك أو كان فيك .. من ليلٍ كثيف الظلام .. كأنما قد احترقت نجومه وأقماره .. فاستوى فيه إغماض الجفن وانعقاده .. أو حزنٍ تشبَّث في أركان نفسك .. أو تشبَّثتَ به .. حتى ظنَّ من يراك أنه فِلْذة نفسك .. وحُشاشة روحك .. لا تفارقه في معتركِ حدثٍ جلل .. أو شكٍ ضرمت ناره في قلبك، واشتعل أواره في صدرك .. حتى انتسف كلَّ آثاره .. أو خوفٍ تملَّكك فأوصد عليك منافذ السكينة والقرار .. أو شعرٍ يردد عليك أوهاما .. ويغري بك جهالا .. يرمونك عن لؤم طبع، وضغينة نفس؟...
أظننت ذلك حقا ؟.. لست أدري إن كان ظنك حقيقة أو وهما ؟.. ولكني ساءلت شيخنا الذي خاطب الرياح مرَّة "بصرخة ملهوف طعين أفنى الليالي انتظارا" .. ولم تجبه .. ولم تأبه بندائه وصرخته .. فما ألفيتُ منه سوى نظرة عميقة الغور بعيدة المدى .. "تنبيك بالخبر اليقينِ" .. تنبيك أن الرياح " مضت على أذلالها لا تنصت ولا تسمع" ولا ترى ...
لكنَّ الظن الذي لا يخيب .. ذلك النداء الحبيب .. إلى القريب المجيب .. " يا إلهي وحبيبي .. وطبيبي ومعيني" .. تجلَّ بلطفك على " ظامئٍ أنهكته الدروب تهاوى عَياءً على موردِ" ...
الظامئ المنهك
سحبان فاروق مشوح
1) هو استبشار وأمل .. وقياس بعلة الرحمة والسعة.
2)أردت الصورة دون المعنى .. حيث رسم المتنبي بريشته لوحة لقصور غيث السحاب في جانب عطاء الكريم.
3) أجز لي أن أقولها .. فقد أكرهت وقلبي مطمئن بلغة العرب.