ان الفكر هو نتاج العملية الفكرية , أي هو النتيجة للحكم على الاشياء واصدار الحكم عليها او الرأي فيها , فهو معرفتها او معالجتها .
وللتفكير له طرق مختلفه أي له اشكال مختلفة لممارسته , والخروج بالنتيجة منه , فتبدأ من التفكير السطحي الى ما هو أرقى كالتفكير العميق أو الاسمى الا وهو التفكير المستنير .
ومن بين أعلاه سنجد ايضا التفكير العلمي والتفكير الواقعي والتفكير العملي ...الخ , وهنا نتطرق الى أهمها وأوضحها واصدقها نتيجة وخاصة في البحث في النهضة والعقيدة والحياة , الا وهو التفكير المستنير .
والنهضة للبشرية لا بد من الوصول اليها بأحد أنواع التفكير الموجودة , فان كان الفكر العلمي لا يوصل الى نهضة كونه متعلق بالمادة وأحوالها وتطوراتها ...الخ فهو ليس تفكيرا شاملا ليستعمل في الوصول الى النهضة والى عقيدة النهضة واساسها .
الفكر المستنير
أن الفكر المستنير هو الأرقى ، وهو الفكر المؤدي إلى النهضة الحقيقية ، وهو الفكر الذي يجلي غوامض الأمور ، ولم يكتف بمعرفة أصول الأشياء وفروعها ، أو الوقائع ومسبباتها أو النصوص ومعانيها كما هي الحال في الفكر العميق إلا أنه يتعدى ذلك لمعرفة ما يحيط بهذه الأشياء وما حولها وما يتعلق بها.
فهو حين يبحث في الشيء فإنه لا يكتفي بالوصول به إلى معرفة وزنه النوعي أو تركيبه الذري بل لا بد من معرفة ظروفه وأحوله أي معرفة القوانين التي تتحكم به . والخواص التي يمتاز بها ، والتي يسير بموجبها سيراً جبرياً لا يستطيع الانفلات منها ولا التخلف عنها إلا إذا تغيرت حاله ، وتبدلت ظروفه إلى أحوال وظروف أخرى ، فتتحكم به القوانين والخواص الأخرى فحين يصل إلى هذا العمق في البحث لا بد أن يسأل عما يتعلق به أي من الذي أخضع هذا الشيء لهذه القوانين وسيره حسب هذه الظروف والأحوال وهذا يعني تسليط الأنوار على أجزاء الشيء والقوانين التي تتحكم فيه ،ومعرفة من أخضعه لتلك القوانين ولذلك سمي فكراً مستنيراً أي أنه لم يترك شيئاً إلا سلط عليه الأضواء وبين ما وراءه غير مكتف بالعمق ورافضاً للسطحية التافهة .هذه هي طبيعة الفكر المستنير وما يمتاز به عن الفكر العميق . هذه هي الأفكار التي تتحكم في تصرفات الإنسان وسلوكه ،وعلى أساسها تتكون مفاهيمه وميوله ، وبها يحدد وجهة نظره في الحياة ويعرف معنى وجوده في الحياة . فهو الذي يختار مكانه ومكانته بين الناس . فهل يرتضي أن يكون منحط التفكير منخفض الإدراك ؟ هل يرتضي أن يكون سطحي التفكير قصير النظر ؟ هل يغوص في العمق ويترك ألف سؤال وسؤال من حوله هل يتهرب من الإجابة عن ربط الأسباب بالمسببات بقوله صدفة أو طفرة حين يعجز عن التعليل ؟ أم أنه يبتغي المكانة التي كرمه الله بها والنعمة التي حباه الله إياها نعمة العقل وكرامة الإنسان . يفكر كإنسان ويستعمل عقله لإدراك الأشياء وجلاء غوامض الأمور ومعرفة الحقائق . فلا بد له من تتبع الأحداث وربط الأسباب بالمسببات ومعرفة ظروفها وأحوالها وتسليط الأنوار الكاشفة لمعرفة ما يتعلق بها ، حتى يستطيع السير في طريق النهوض والارتقاء في مدارج الكمال عن عقل وبينة . لهذا ؛ فإننا نقول " ينهض الإنسان بما عنده من فكر عن الحياة والكون والإنسان ، وعن علاقتها جميعها بما قبل الحياة الدنيا وعن علاقتها بما بعدها " وهذا يعني أن طريق النهضة هو نظرة الإنسان للإنسان نفسه وللحياة من حوله ، في هذا الكون الواسع الذي يعيش فيه ، حتى يتمكن من معرفة هذه المرحلة الزمنية التي يحياها الإنسان في هذا الوجود ، أي معرفة معنى وجوده في الحياة ولا يتأتى له ذلك إلا إذا تكونت لديه فكرة كلية عن الكون والحياة والإنسان ، ليقرر حقيقة ثابتة أهي أزلية خالدة أم أنها مخلوقه ؟ فإن تقرر لديه أنها مخلوقه فما الذي قبلها؟
أي لا بد من تكوين فكرة عن هذا الخالق الذي يستند الوجود إليه ، كما لا بد من تكوين فكرة كلية عما بعد الحياة الدنيا ، فما دام أن لهذه الحياة الدنيا بداية فلا بد أن يكون لها نهاية فما هي ؟ وما هي العلاقة بين هذه الأشياء جميعها وبين ما قبلها – أي خالقها – ؟ وما العلاقة بينها وبين ما بعدها ؟ أي هل أن هناك علاقة بين الحياة الدنيا وما قبلها؟ وهل هناك علاقة بين الحياة الدنيا وما بعدها ؟ وبالإجابة عن كل هذه التساؤلات يمكنه معرفة الحياة الدنيا ، أي معرفة المرحلة الزمنية التي يحياها . وبذلك يستطيع أن يعرف معنى وجوده في الحياة ، ومعنى هذه الحياة .
أما لماذا حتمية هذه التساؤلات وحتمية الإجابة عليها لتكوين فكرة كلية عنها ، ذلك لأن الإنسان مجبر على التعامل معها ، ولا يستطيع مطلقاً أن يعيش بمعزل عنها ، فهو فرد من بني الإنسان تربطه مع غيره من البشر علاقات حتمية لابد من تصريفها ، كما أنه يرى من حوله كائنات حية هو فرد منها ، ولا بد له من التعامل معها ، وتشاركه العيش على هذه الأرض ، في هذا الكون الواسع . وفي هذه الأرض أشياء وأشياء لابد له من استعمالها ، ففيها قضاء حاجته ، ومنها إشباع جوعته وتحقيق رغبته . خصوصاً وأن الله سخر له ما في الأرض جميعاً ، وباختصار إن هذا الإنسان صورة عن الكون بما فيه ، فهو يشارك الكون بتركيبه المادي ، ويشارك الكائنات الحية بالروح التي تسري فيه ، وينفرد هو بالطاقة العاقلة المسخرة لغيرها ، والتي هي مناط التكليف . من هنا كان لابد من تكوين فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة . فليعرف نفسه أولاً وليعرف الحياة التي تدب به وبغيره . وليعرف الكون الذي يعيش فيه لعله يستطيع معرفة الحياة الدنيا ، وما يترتب عليه في هذه المرحلة الزمنية التي سيقضيها . أي يعرف معنى وجوده في الحياة .
وبدون الإجابة على هذه التساؤلات وتكوين فكرة كلية عن الوجود ، بغض النظر عن صحة الإجابة أو خطئها ، فإنه يعجز عن تحديد معنى وجوده في الحياة ، فيهيم فيها على وجهه ، همه إشباع أكبر قدر ممكن من المتع الجسدية لا يختلف عن أي حيوان آخر ، إن لم يكن أسوأ حالاً .{لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل}الأعراف (179) {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر}الجاثية (24) .
إن هذه الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة لمعرفة معنى الحياة الدنيا الناشئة عن تلك النظرة الفاحصة الشاملة للكون والإنسان والحياة هي ما يطلق عليه العقيدة ، حيث عرفت العقيدة بأنها " الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة ، وعما بعد الحياة وعن علاقتها جميعها بما قبل الحياة وعلاقتها بما بعد الحياة " ولهذا كانت العقيدة هي الطريق الوحيد لإيجاد المفاهيم الصحيحة عن الحياة الدنيا ، ومعرفة هذه المرحلة الزمنية التي يقضيها الإنسان في الحياة ويعرف معنى وجوده وماذا عليه أن يفعل ، أي هي التي تحدد له وجهة نظره في الحياة ، ومنها تنبثق نظم حياته وضوابط سلوكه وتصرفاته ، ولذلك كانت هي القاعدة الأساسية التي تبنى عليها جميع أفكارهم ، لأنها لم تترك شيئاً يمكن أن يقع عليه الحس إلا شملته بالفكرة الكلية الناشئة عن النظرة الفاحصة الباحثة ، وأعطت الإجابة الكافية عنه سواء ما يتعلق بسلوكه أم بأفكاره ، فهي قاعدة أساسية لها لأن الأفكار كما قلنا هي الحكم على الأشياء أو الوقائع أو الأحداث . وهذه هي الفكرة الكلية قد اشتملت على كل ما يمكن أن يقع عليه الحس ، فهي إذن قاعدة أساسية للحكم على أي شيء في الوجود باعتبار أنها أجزاء من تلك النظرة الشاملة لكل شيء في الوجود وأما أفعاله وتصرفاته التي يحتم أن تكون تابعة لوجهة نظره التي كونها عن الحياة ، ومعنى وجوده فيها ، فهي فرع من معرفة علاقته بما قبل الحياة والمتعلق بمصيره بعد الحياة ، فلا بد أن تكون جميع الأفعال والتصرفات – والحالة هذه – فروع انبثقت عن معرفة علاقته من حيث هو إنسان بما قبل الحياة الدنيا – أي علاقة الإنسان بما قبل الحياة ، أي بمن أوجده في الحياة ، على هذا الكون .
بقيت مسألة :
هل كل عقيدة تصلح للنهضة ؟ وهل كل عقيدة صحيحة ؟
إن كل فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة وعما بعد الحياة ، وعن علاقتها بما قبل الحياة ،و عن علاقتها بما بعد الحياة ، أي كل عقيدة تصلح أساساً للنهضة لأنها اشتملت على قاعدة أساسية للأشياء وقاعدة أساسية للعلاقات ، ومعرفة لوجهة النظر في الحياة ومعرفة لمعنى الحياة ، وبالتالي فإنها ترسم الطريق لحاملها للسير في طريق النهوض ، أي الارتقاء من حال إلى حال أفضل فرداً كان أم مجتمعاً . ومن هنا كانت العقيدة الشاملة لهذه الأسس جميعها هي أساس النهضة ، بل إن النهضة لا تتم إلا بها وعليها . أما إن كانت العقيدة قاصرة أي مقتصرة على جانب دون آخر ، وأهملت شيئاً مما يجب أن تشتمل عليه . فإنها لا تصلح بل ولا يصح أن نسميها عقيدة بناءاً على هذا التعريف وإن سميت فالتسمية مجازية ليس غير .
أما إنها فكرة صحيحة ، أو قاعدة صحيحة وتؤدي إلى نهضة صحيحة وانتقال بالفرد أو المجتمع إلى حال أفضل . فهذا يتطلب إقامة الدليل على صحة الفكرة أو القاعدة وإقامة البرهان على ذلك ، وبما أن العقيدة فكرة ، والمبحوث عنه "فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة " فكونها فكرة فإنها تخضع لما يخضع إليه أي فكر يراد معرفة صحته من بطلانه ، أي يراد محاكمته ومعرفة انطباقه على واقعه أم مغايرته له . إذ كل فكر هو حكم على واقع ، ومن صحة الفكر أن يكون منطبقاً على الواقع الذي أطلق عليه . كما أننا حين نحاكم الأفكار لمعرفة صحتها فلا بد لنا من مقاييس ثابتة ومعايير حقيقية تقرر حقيقة تلك الفكرة على أساسها . ولهذا كان لا بد من معرفة تلك المقاييس والمعايير حتى يكون الحكم واضحاً جلياً.
إن الفكرة حكم عقلي على واقع معين ، وحين نقول إنها حكم عقلي فلا بد إذا من الاحتكام إلى العقل أي إلى القواعد العقلية الصحيحة ، أي جعل العقل هو الحكم عليها ، وأن تكون مبنية عليه أي على ما يقطع العقل السوي بصحته .
فالعقل يقضي مثلاً أن وراء كل أثر مؤثر ؛ وراء كل نظام منظم ؛ وأن كل منتظم بنظام احتاج إلى من نظمه وأن العاجز عن الكمال محتاج ، وأن المحتاج لا يستغني بذاته وأن من يعجز عن سد حاجته هو ، فهو عن سد حاجة الآخرين لنفس الحاجة أحوج ، وأن فاقد الشيء لا يعطيه ، كما يقضي العقل السلم بعدم اجتماع النقيضين ، كما يقضي للشيء بأحد أمرين الوجود أو العدم . هذه بعض القواعد التي هي مسلمات عقلية ، ولا بد منها ليبني عليها العقل أحكامه ويقيس عليها الآراء والأفكار ويستند إليه حين إصدار الأحكام ولكنه حين يتجاهل هذه القواعد وأمثالها أو يحكم بخلافها ، نقول إنه حكم عقلي ولكنه ليس مبنياً على العقل ، أي ليس مبنياً على هذه القواعد أو مستنداً إلى هذه المقاييس . تلك المسلمات التي لا يختلف فيها اثنان من العقلاء .
إذا فالمقياس الأول في صحة تلك الفكرة – العقيدة – أن تكون مبنية على العقل حتى يقتنع بها كل صاحب عقل ، لا أن تترك الإجابة ويتساوى عندها الوجود والعدم ، أو تقنع بالحل الأوسط ، أو أن تجعل المادة مصدر التفكير ، أو أن تترك ما يتنافى معها للصدفة أو الطفرة . فالشرط الأول فيها أن تكون عقلية ومبنية على العقل .
أما المقياس الثاني فإنه مقياس من نوع آخر .
فالبحث متعلق بالإنسان ، ومعنى وجوده في الحياة ، ليعرف كيف يسير في الحياة ، ويسير أعماله وتصرفاته بحسب فهمه لمعنى الحياة . لذلك كان لا بد أن يكون واقع هذا الإنسان وفهم حقيقته هي مناط البحث . لأنها الواقع الذي نريد تطبيق الفكر عليه حتى يصح أن يصبح الفكر صحيحاً بانطباقه على هذا الواقع . لأن الفكر الصحيح هو من انطبق على واقعه . فما حقيقة هذا الإنسان ؟ أي ما الفطرة التي فطر عليها؟.
هذان المقياسان لا بد من محاكمة الفكر الكلية – العقيدة – بهما . المقياس الأول أن تكون عقلية مبنية على العقل ، والمقياس الثاني ، مطابقتها لواقع هذا الإنسان .أي موافقتها للفطرة التي فطر الإنسان عليها.
--------
يتبع / .... الحلقة الثانية