ثقب في الذاكرة !
حين رأيتها في المصعد صباح هذا اليوم تشككت من معرفتي بها ، كدت أسألها : هل أنت زميلة جديدة في العمل ..؟
ستضحك وستقول بدلال : ما أثقل مزاحك ، وستتغير نبرة صوتها :ألم تعرفيني منذ إسبوع فقط كنا نفطر سوياً في الكافتيريا ؟
سأعتذر و أبدي أسفي لعدم إنتباهي وأن السبب قد يكون في نظارتي الشمسية السميكة التي لازلت أرتديها أو لخصلات شعري الساقطة على عيني .. سأخرج مسرعة حتى لا تشعر بارتباكي و إرتعاش يدي ..
هكذا رسمت السيناريو مع زميلتي التي كدت أجهل معرفتي بها .لولا أني قمت بجهد عميق لتنشيط ذاكرتي حتى أتعرف عليها ، ساعدني الكتمان الذي أجيده بأنها لم تتعرف على جهلي . لكن بعدما تجاوزت الموقف . هزني هذا السؤال القادم من خوفي وهلعي : هل أصابني الزهايمر و أنا لم أصل الثلاثين من عمري..؟ ..
أحياناً كثيرة تختلط على أسماء الزميلات في العمل والصديقات .. لا أستطيع تذكر الإسم ؟ .. بل والاكثر من ذلك أنسى ملامحهن وأشكالهن كما أعجز عن حفظ العناوين و أرقام الهواتف وحين أهم بالحديث أنسى ما سأقوله .. !!
جفاني النوم قيلولة هذا اليوم حين عزمت الذهاب للطبيب مساء , وجف حلقي قليلا وجمدت أطرافي وأنا في غرفة الإنتظار . وترددت فيما سأحكي له .. . . وهل أنا مصابة بمرض عضال ..؟ الدقائق غدت طويلة ..! شعرت بنبضات قلبي تفر من أذنيّ حين نادتني الممرضة , دخلت بخطوات متباعدة وحين جلست صافحتني رائحة القهوة الثقيلة من كوب على المنضدة وأعقاب سجائر متناثرة بجواره وتمنيت أن أرشف قليلاً منه حتى ألملم أفكاري المشتتة ..
حين بدأ الطبيب يدون شكواي أخذت أصابعي تنقر بمهل على طرف المنضدة ..
- لدي ثقوب في الذاكرة أخذت تتسع شيئاً فشيئاً حتى أصبح من الصعب رتقها ...ذاكرتي مهترئة يادكتور..!
أتسعت عينيه الضيقتين من خلف نظارته السميكة وتوقف عن الكتابة ونظر محدقاً فيّ
- لا أعلم لماذا أنسى الأشخاص والأسماء والأ ماكن ولكن ذاكرة الأحداث باقية في ذهني .. بل وأحياناً حين يحصل لي موقف لأول مرة أشعر بأني قد عشت هذا الحدث من قبل بكامل تفاصيله..! أني أشعر بغطاء أو غشاء كثيف يدثر عقلي هكذا .. هكذا ..وأخذت أحرك يدي وقد وقفت أمامه ولم أشعر بخماري الذي سقط على كتفي.. هل تفهمني يادكتور .. ؟
انفرجت إبتسامة من بين شفتيه الممزوتين وهز رأسه بنعم ..
سألني إذا كنت قد أصبت بحادث من قبل .؟. أو مرض ؟ أو صدمة إنفعالية عنيفة ؟ أوعاقرت مسكراً ..؟
جف حلقي أكثر ..وبعد صمت قصير وتردد .. أجبت بصوت منخفض : لا
كما كنت أتابع بذعر وقلة وعي مؤشر الموجات وهي ترتفع وتنخفض وأنا مستقلية على كرسي لتخطيط الدماغ .. وبعد عمل الأشعة أخبرني الطبيب بأني مصابة بتدهور بسيط في الذاكرة العاملة وأن العلاج بسيط !!
وكتب لي وصفة عبارة عن منشط للذاكرة وفيتامينات مقوية .. . قد نسيتها على مكتبه عند المغادرة !
في الطريق توقفت عند جهاز الصرف الآلي وحين وهممت بإ دخال البطاقة لم أستطع تذكر رقمي السري ,, ! ولم تفلح الأدعية التي حفظتها عن أمي لعلاج داء النسيان في فك رموز الرقم .. حينها صعبت علىّ نفسي وفرت مني دمعة وأنا أقف كالبلهاء أمام الجهاز العنيد ..!!
وحين مررت في طريقي بالمدينة القديمة حيث رائحة موطن الطفولة ,مر حينها شريط الذكريات مفصلاً ونقياً .. قلت متباهية : الحنين دواء . لكن ذلك الشريط المفصل والنقي عاد للتشويش بعد مغادرتها .
صعبت علي نفسي مرة أخرى وفرت مني دمعة ، تمثلت حالتي البلهاء أنها ستعرف من الآخرين . سيدركون أنني أنسى . أنني لا أتذكر ما يحدث . وتوجعت بسؤال إضافي أطل من حالتي الصامتة – سؤال له ضجيج وزلزلة : هل سيكون سعيداً بأنني إمرأة تنسى ؟
ضحكت – وصعبت علي نفسي للمرة الثالثة .. وفرت من عيني دموع وليست دمعة واحدة . تركت نفسي للبكاء حتى انتهيت . حينها انتبهت إلى ساعتي في معصمي اليمين وكنت أنقلها إليه حتى أتذكر الأمور الهامة .. ولكن لايهمني الآن ما سأتذكره..!
.