قراءة في رواية قاع المدينة – للكاتب عبد الغني خلف الله الربيع
أحبائي أعضاء وضيوف رابطة الواحة الثقافية ..صدرت لي رواية قبل بضعة سنوان حملت عنوان ( رحلة في قاع المدينة ..) وأتمني أن تسنح لي الفرصة في المستقبل المنظور نشرها في حلقات عبر هذا المنتدي العامر بمبدعيه وإدارته ..ولكن وقبل ذلك آمل في تقبلكم لهذه الدراسة النقدية التي تفضل بها الناقد السوداني الكبير صديق رحمه مع كل الود ..إذ يقول :
أتحفنا الكاتب المبدع عبد الغني خلف الله - كعادته دائماً - بروايته الشيقة (قاع المدينة) والتي تفسح من خلال مسرحها المجال الأرحب والأوسع للجمالية ، وتوليد الأحاسيس المختلفة وتقفز بكـ بنشوة من سطر لأخر ، بذل الكاتب جهداً خرافياً في بناء الشخصيات من غير إخلال بتوظيفها وسلوكها عبر مختلف الحقب والتجارب ، وبرغم اختلاف شخوص الرواية وأحداثهم وتاريخهم وإنتماء أبطالها لشريحة بعيدة عن أنظار المجتمع لكنها أعطت هذا النص التميز عن المعتاد ، ولعل لواقعيته وقعها السحري مما أدى الى إمكانية قابليتها للفهم لدى المتلقي في ميدان انشغاله بالشخوص والأحداث ، وأنت تنقب في صفحات النص لا تلمكـ ان تخفي انحيازك الى أحد أبطال الرواية حسب ما تدخره من مفاهيم وحسب ميولاتكـ الفكرية والفلسفية للحياة ، فالشخوص هنا على اختلاف طبقاتهم وشرائحهم الاجتماعية سخرهم الكاتب لتوصيل رسائله للمجتمع وللقأري بأن ثمة تغيير يطالنا حتى لو تمسكنا بكلاسيكيتنا في تنميط الأفراد ، فبطل الرواية ( حربي ) الذي تحدر من صلب أسرة فقيرة ، ونشأ في حي عشوائي خارج دوائر التخطيط المدنية ، وعاش يتيماً أثر استشهاد والده العسكري في أحدى حروب بلادنا الغير مبررة لم يجد بد من أن يسلكـ طريقاً لكسب عيشه سوى أن يصبح صبي في دكان لتعلم الميكانيكا وأختلط بفاقدي الهوية مجهولي الوالدين ومتعاطي الممنوعات وتجار الأسبيرات والعربات المسروقة وبنات الغواية ، لكنه أستطاع بمثابرة كبيرة ان يعلم نفسه ويترقي بها في سلم المجتمع ليجد مكاناً مقبولاً بينهم ولم تمنعه ظروفه المكبلة للتقدم من الإنطلاق بأقصى قوته نحو غايات الإنسان وتطوير الذات ومقابلة التحديات بروح خلاقة ، فأحدث تغيرات كبيرة منذ تنظيمه لمطالب الحي العشوائي وخلقه جسراً من التواصل بين المواطنين والحكومة ، مروراً باحتضانه (شنكل وكافولة ) مجهولي الأبوين في بيته وتزويجهم شقيقاته ، إنتقالاً بتقلده منصبه النقابي ليدافع عن مطالب العمال والطبقات المسحوقة إنتهاءً بتقلده منصب الوزارة والوقائع التي دارت في أروقتها ... فخلال هذه المسيرة أستطاع الكاتب أن يخلق تجسيده لفكرة عدم الركون للمعطيات والظروف الحياتية المحبطة للتقدم ، وقد بنى الكاتب الشخصيات بشكل متسق يعكس مدى إمساكه بخيط الفكرة حتى في منعرجات النصوص الغائرة فكانت كل تصرفات وسلوكيات (حربي ) تتماهى معه كشخص انبثق في قلبه ضوء الخير فأفاض وهو بذلكـ أصبح مثالاً لبنية الوعي والطاقة الخلاقة في المجتمع الذي تذوب في فضائه الفروقات الاجتماعية وتحدث إبهاراً في وعاء التجربة الإنسانية المحترمة ، شخصية أخرى كسحر تلكـ المضيفة الجوية ذات الحسب والنسب وسليلة الاستنارة حسب العرف الاجتماعي لم تمنعها (بروباغندا الطبقات ، وفوبيا المجتمع ) من حبها ل (حربي )وزواجه ، حتى أن القأري يشفق عليها في تجربتها جراء هذه المعادلة الغير متساوية ولكن وعي بطل الرواية (حربي ) وتطور فكر المضيفة ( سحر )يجعل هذه المعادلة ممكنة وجائزة وهي بهذا المثول تمثل إختراقاً لبنية المجتمع التنميطية التي لاتقبل بزواج غير متكأفي بين بنت أسرة وحسب ونسب من صبي هو في الطبقات الاجتماعية مجرد ذيل لا يعترف به المجتمع لكنهما أستطاعا بذكائهما ومثابرتهما معاً من التغلب على هذه التحديات وتوصيل علاقتهما الى بر الأمان فحسب بل أصبحا أنموذجاً للمعاضدة الإجتماعية الخلاقة بين الطبقات المتفاوتة .... شخصية كمثل السيدة (بطة) هي الأخرى شخصية محكمة الصنع وكأنها واقع .. إنسانة من أسرة فقيرة وطبقة كادحة ، وتعليم بسيط ، وجدت نفسها فجأة في بيت مجرم ليس له ضمير يسخرها لأعمال غير شرعية ، فكل هذه المعطيات كان من الصعب ان تنفكـ من دائرتها من غير إنشراخ نفسي رهيب أدى الى أرتكابها لجريمة قتل مروعة ولعل ظروف ( بطة ) الحرجة فرضت عليها تبني قراراتها على أساس الماديات لتنفلت من واقع مأزوم تعيشه ولكننها سريعاً ما يتكشف لها خطل تقديرها وركونها الى ذلكالعالم المقيت فتصيبها الخيبات والحسرات واحدة تلو الاخرى فلاتجد غير ( حربي ) الذي أحبها ووقف معها في أحلك الظروف بدون طائل ، وقد كانت فترة السجن إعداد حقيقي لها للرجوع الى عالم الواقعية لكنها فضلت الهرب تاركةً ساحة المعركة الى العزلة الأبدية مثلها مثل الأستاذ عصام شقيق سحر ...
إنتقال النص من بيئة الى أخر كان موفق ولا يشيء بإي إختلال تفكيكي للنص، فريشتارد المتزوج من جوليا هو في الاساس رجل غربي ولاتهمه من منطق ثقافته الغربية ولوغ ( جوليا ) في مستنقع العلاقات الجنسية خارج إطار المؤسسة الزوجية مع غريمها (ناجي ) ، فريتشارد لم يتردد في الزواج منها رغم معرفته بما حدث معها قبل الزواج ولم يتردد في إحتضان (شنكل) في معية أبويته وتعامله مع عشيق زوجته السابق في حدود ثقافة الوظيفة والمهنة دون خلط للعلاقات الشخصية في العمل ..فثقافة الغرب تسمح بهذه الهوامش بينما تعتبر في ثقافة الشرق من المستحيلات ، فليس من السهل في مجتمع شرقي كالمجتمع السوداني أن تتزوج من بنت أقدمت على الجنس قبل علاقة الزواج الشرعية وهذا ما دفع بها لاان تتخلي عن أعز شيء الى قلب الأم وهو الأبن وتلقي به في الطريق تتربصه المخاطر وأشباح الموت والذئاب ، ولعل هذا يؤكد قوة العرف في المجتمعات التقليدية وتغليبه على حساب العاطفة ويستحيل ان يتجرأ شخص من هذا المجتمع على الإقدام لتبني طفل سفاح غير شرعي من صلب زوجته وحتى لو تم ذلكـ فلن يقبل المجتمع به كشخص بريء من هذا الذنب ويجب التعامل معه على هذا الأساس وبدون مجاملة في حالات الزواج والشهادة والإختلاط مستقبلاً ولا يستثني هذا الحكم إلا في وسط الطبقات الخاضعة لنظرة المجتمع الدونية وهذا ما حدث مع (شنكل وريتشارد )، وما حدث بين (شنكل وسلمى ) حينما تزوجت به من غير تحفظ مع علمها بأنه مجهول الوالدين ومتحدر من علاقة خارج أطر العرف الإجتماعي والديني .... وهذا يؤكد تقدم وعي (حربي) على مجتمعه رغم قلة تعليمه وحظوظه أنذاكـ وهو يخرج قراراته بهذا الزواج...
لاأستطيع أن أصدر حكماً عاماً على نهايات الرواية ولكن من موقع خاص فأنا راضي عن أداء الكاتب كل الرضا وراضي عن هذه النهائيات التي تماهت مع أمنياتي وأنحيازي وشوقي لمعرفة مالآتها ،،، فأنحياز القراء للشخصيات والأبطال خاضع لأهواء القأري نفسه وهو ما يعرف في علم النقد الادبي بخضوع النص أو الإطاحة باستقلالية النص وسلطته وجعله خاضعاً لتقديرات المتلقي الباحث عن الحس الدرامي الذي يسكن بنية النص فيتوقع نهايات معينة او لا تروق له النهايات التي إنتحاها الكاتب وأجترح فصلوها .. فيخلق لديه شعور غامض وحانق على بعض الشخصيات فمثلاً قد يتسأل قاري من بنية محافظة (كما يطلق عليها المجتمع ) لماذا سمح الكاتب ل(حربي) أن يتزوج من هذه البنت المحترمة ؟؟؟ وكيف لبنت مثل سلمى ان تتزوج من رجل حملت به أمه سفاحاً وعاش جل وقته في مراكز الرعايا والسجون وباحات التشرد ؟؟؟ في الوقت الذي يكون هناكـ قأري اخر معجب أشد الإعجاب لانتصار الخير على الشر وانتصار الحق على المفهوم الخأطي السائد في المجتمع ، بينما تواصل مجموعة ثالثة من القراء مشوارها الإنفعالي مع تفاعلات النص غير مكترثةٍ بهذ الأسئلة وهذه المآلات باعتبار أن النص كله من إنتاج الخيال ولا مكان له في الواقع إلا ما يقتضيه محض الصدفة وسياق التماهي ... وهكذا تتشعب أراء القراء وميولاتهم لتحدد رضاهم وتقييمهم للخواتيم ...
النص يحمل بين طياته قدسية اللغة وصرامتها وانفتاحها وتطويعها ، ويحمل عوامل التشويق والإثارة و تحولات النص ( الزمكانية ) وجرها من الماضي عبر تمثلات وتمظهرات وتخيلات هي بالضرورة من ضمن شروط خضوع النص لمعطيات الحاضر الواقع وتطويع اللغة لعكس هذا النطاق أخذاً في الإعتبار بيئات القراء المختلفة وثقافتهم المتفاوتة وإختلافات مستوياتهم الإطلاعية والمعرفية لانه في النهاية لا بد من وجود متلقي للنص لان غياب المتلقي وتلبس النص بالغموض يدفع بالنص الى المجهول واليتم فإذا كانت المعرفة تؤدي الى إدراك وتكهن يرتكز عليها النص في بنائيته وغيرها من الشروط والخصائص التي ترفع بمستويات النص وفعاليته ونضجه ولكنه يملك أيضاً مشروعية البحث لدى المتلقى في هذه الأنسجة وتحولاتها المعرفية والتاريخية وانتقالاتها في فضاءات اشتغال النص وتماهيها مع اللغة المفهومة والواقع بقدر المستطاع ، وفي تقديري الشخصي أن الكاتب قد نجح في كتابة النص بلغة مناسبة للفئات المختلفة التي تقع داخل نطاق القراء الشيء الذي سيؤدي حتماً الى استقطاب القأري على مختلف مستوياته المعرفية لمغبة تعاطي قراءة هذه الرواية والاستمتاع بأحداثها الجديرة بالمعرفة والتوقف عندها ، وليت هذا النص بما حواه من صراعات واقعية ورسائل إنسانية راقية بالغة الأهمية أن يتمكن الكاتب او أحد الشباب من تحويله لعمل درامي سوداني ليصل الى المتلقي في دائرة المشاهدة والاستماع خارج محيط القراءة لنضمن إتساع دائرته ، وربما بصورة من الصور يساهم في تحريكـ بركن التغيير كتمرد مشروع على الواقع السوداني وخلخلة ذاكرته الإنسانية وخطابها المعرفي وطباعها الغليظة تجاه طبقات نحن أحوج ما نكون الى مجهودها وتحويلها الى شرائح متناغمة داخل المجتمع والاستفادة من بور الضوء في ذاكرتها بدل من عزلها وتفاديها.
صديق رحمه
جده-المملكة العربية السعودية