الحلقة الخامسة
وصلت للجريدة الرسالة الثانية من الأستاذة ( نهله ) من مدينة ( كان ) احتوت علي المقابلة الشيقة مع الممثلة ( تينا كرستوفر ) الحائزة علي جائزة الأوسكار لأحسن ممثله .. وسألتها إن كانت قد زارت السودان من قبل ؟ فأجابتها بأنها جاءت للسودان مع والدتها التي كانت تعمل باليونسيف في إطار برنامج نحن العالم نحن الأطفال:
(We are the world we are
the children) وأمضت بالسودان حوالي خمسة أيام وأضافت أنها لا تتذكر الأشياء بوضوح إذ أنها كانت في الخامسة من عمرها لكن بعض الكلمات رسخت في ذهنها مثل .. جميلة جداً وأوضحت أنها كانت تسمعها من أفواه الكثيرين وسألت بدورها الأستاذة نهله عن معني هذه الكلمات .غير أن ريم تدخلت وغيرت موضوع الحوار وسألتها عن الأكلات السودانية وهذا هو ديدن ريم الأكل ثم الأكل وبعد ذلك النوم ثم النوم ومن ثمّ اللبس ثم اللبس ..تينا كرستوفر أجابتها بأنها أحبت عصير الجوافة ونطقتها هكذا ( قوافه ) ..نهله سألتها عن مشاريعها الفنية للفترة القادمة وماذا تقول لقراء (المجهر ؟(..أوضحت بإنها ستقوم بجولة في أفريقيا إستعداداً للفلم العالمي ) اللعبه ( والذي تدور وقائعه حول الاستعمار الجديد وتقاسم مناطق النفوذ بأفريقيا لذلك ستكون ممتنة لو أن نهله إستضافتها بدارها في الخرطوم فهي تريد التوغل في المجتمعات الأفريقية وتقول لقراء المجهر سلامو عليكم وشكراً .. كلو ده يطلع منك ؟ ريم تحدث نفسها وقد التقطت حوالي أربعمائة صوره أثناء الحوار .
آنسه كوثر قررت الذهاب إلي قسم المرور لتجديد رخصة القيادة إثر استلامها للعربة الجديدة التي أهداها لها خطيبها فهي منضبطة جداً في مثل هذه الأشياء لذلك نجدها تدون في أجندتها تفاصيل أوراقها الثبوتية من حيث انتهاء مدة الصلاحية ومن ثمّ وقعت على إشعار باستلام تحويل به حفنة لا بأس بها من الدولارات أرسله لها عصام وقبل أن تعيد الورقة لموظف البريد لاحظت أن توقيعها مش ولا بد ... لقد جلست الساعات الطوال تبحث عن توقيع مناسب يليق ورصيدها المتنامي من العملات الحرة وها هو توقيعها يشبه كلمة مبكر وربما مغفل لا تدري .
توقفت قرب دائرة المرور عند رجل يجلس ذاهلاً عمّا حوله وبالرغم من ملابسه الرثة فهو أبعد ما يكون عن المتسولين .. وبفضول الصحفي وتعطشه للاكتشاف قررت كوثر أن تتعرف علي هذا المذهول .. فهي تعتقد أن كل دابة علي وجه هذه الأرض تحمل في دواخلها دراما حقيقية .. جلست بقربه وحيته بلطف شديد :
_ صباح الخير يا أستاذ..
_ من !!؟ سوزان ؟ ماي لف .. ماي دارلنق ومن ثّم طفق ينشد أغنية إنجليزية تقول كلماتها .. سوزان وما سوزان .. تأخذك إلي كوخها الخشبي قرب النهر وهنالك.. تجترح أعماقك الشاسعة ببشرتها الناصعة ومعا تستوضحان كينونة الألم ..سوزان ..
_ يا أستاذ أنا متأكده بأنك ما مجنون وأنك في كامل وعيك وفي الحقيقه...
_ الحقيقة... آه...أين هي الحقيقة ؟ نصفها عند الأرواح الهائمة في الديجور والنصف الآخر في براثن العدم .. أيها الأبد ..أيها الأبد ..
_ ما بلاش الحركات دي يا أستاذ...أرجوك أعتبرني زي أختك الصغيره وقول لي أيه قصتك ؟
_ أميرة !! أميرة !! قالها وهو يبكي بحرقة وأسي وبين الدموع والتنهدات تتكشف الحقيقة عن روح معذبة وضائعة .. كوثر الموسومة بالحنان غزيرة الدموع سريعة التأثر بكت وأخرجت منديلها تجفف دموعها وهي تردد : حأرجع ليك مره تانيه .. أكيد حأرجع ليك مره تانيه ..ثم أومأت علي عربة تاكسي أخذتها إلى مباني الجريدة حيث الدكتور همام الذي تلقفها بحنان أبوي خالص ولن يغيب عنه طبعا تنسم ذلك العطر العجيب المرسل من ) قطر .(
أخذ مهيد أوراقه وأقلامه وحمل معه خطابا من سكرتير التحرير لكل من مدير التلفزيون ومدير الإذاعة لتسهيل مهمة الصحفي المبتدئ مهيد هكذا عرفه الأستاذ ناجي ..موظف الاستقبال بالتلفزيون أخجل تواضعه بكرم الضيافة وسمح له بالتوغل في دهاليز المبني ولدي دخوله كانت هنالك عربة بها عدد من المذيعين والمذيعات وكاميرات تصوير تتأهب للإنطلاق فقد كان طاقم برنامج) من الخرطوم سلام وأم درمان تحيه ( علي وشك الخروج لتسجيل بعض المشاهد الخارجية .. مهيد لمح إحدي المذيعات اللائي يحتفظ لهن بمكانة خاصة في وجدانه وعندما رآها أمامه وجها لوجه كاد أن يغمي عليه ..إضطرب إضطراباً شديداً وسقطت منه نظارته الطبية علي الأرض وعندما استعادها وجد أن عدسة العين اليسرى قد انفلقت إلي نصفين ، تحركت العربة فهرول خلفها وهو يمارس إبداعاته في اصطياد الحافلات وجلس قريبا من المصور علي حافة العربة وسأله :
إنتو ماشين وين ؟
تصوير خارجي ..
في الخارجية ؟
لا في الداخلية ..إنت جاي من وين ؟
أنا صحفي مبتدئ من صحيفة المجهر ..
وعاوز أيه ؟
مش إنتو الفريق العامل في برنامج الخرطوم سلام وأم درمان تحيه ؟ في الحقيقه أنا عاوز آخدكم زي عينه لريبورتاج ، مش دي العروض الختاميه للبرنامج ؟
نعم إتشرفنا ..
العروض الختامية معناها عمل مكثف .. يقول ليك مسرحية كذا وكذا في عروضها الختامية لذلك تجد الناس بالصفوف ونكتشف بعد أسابيع أن المسرحية لا تزال تواصل عروضها ألا توافقني فيما ذهبت إليه؟
يا حبيبي العربة توقفت وأهو داك مخرج البرنامج ألا ذهبت إليه ؟
مهيد قرر أن يراقب ويتأمل ويدون كل كبيره وصغيره في هذه السانحة التي هبطت عليه من السماء وألا يوجه أية أسئلة .
ترجل الجميع وُطلب من الفنان المخضرم أن يسير علي مهل علي الجانب الأيمن من كوبري النيل الأزرق باتجاه أمدرمان وأن يرسل نظراته نحو المياه المنسابة ثم يحرّك شفتيه في تأثر بالغ وهو يهمس بكلمات تلك الأغنية المعروفة التي تقطع نياط القلب وتحتلب الدموع وتستنفر الأشجان التي هي أصلا مستنفرة ومن ثّم خطا الفنان أولي خطواته وبدأ يدندن بكلمات الأغنية و الفريق العامل والكاميرا خلفه.. وفي تلك الأثناء مرت بالقرب منهم عربة بوكس محملة بالفواكه وقد أدرك السائق بأن هؤلاء السادة لا بد أن يكونوا ناس الخرتوم سلام وأمدرمان هديه ..أوقف عربته وأمر مساعده بإنزال أكبر كميه من ) القريب فروت ( والبرتقال وهو يردد ): أهلاً بناس الخرتوم سلام ) وبعد أن سلم كل واحد منهم كميه لا بأس بها أهدي الفنان المبدع )سبيطة موز(ومن ثّم واصل مشواره .. المخرج أصابه إحباط شديد ذلك لأنه كان قد أوشك علي إنهاء تصوير المشهد فجاء ذلك المواطن ليخرب كل شئ ومرة أخري طلب من الفنان إعادة اللقطات .. في البداية سار بتمهل وهو يدندن بكلمات الأغنية غير أن خطواته بدأت تتسارع والفريق العامل يركض خلفه محاولا اللحاق به دون جدوي وبدا وكأن الجميع يهرولون حتى نهاية الكوبري .. جلس الجميع لالتقاط أنفاسهم بما فيهم مهيد الذّي لم يتأثر بالمشوار لكثرة تعوده علي قطع المسافات الطويلة مشيا علي الأقدام ..ومن هناك أمر المخرج السائق التوجه نحو بوابة عبد القيومالتاريخية في وسط أم درمان وما أن أخذ كل واحد موقعه حتى خرج عليهم مذيع شاب وهو يردد كلاما مثل : الأطار الزماني بواكير هذا القرن ..المدي والرؤيا يستبقان نحو المجد الأثيل والتراجيديا تعانق تداعيات الماضي بينما رويدا رويدا يسدل الستار و..هنا تدخل المخرج طالبا منه إعادة هذا المقطع وهو يقول :يا أستاذ ..يا أستاذ عاوزين أحاسيس ..لا بد من إعطاء النص شوية (spirit )
إتفضل ... استمرت الجولة ومهيد لا يكاد يفهم شيئا وكانت نظراته علي تلك المذيعة التي ستكلفه نظاره جديده لا تفارقها لحظه .