لكلِّ بداياتٍ خاتمة ، وفي الخواتيم يأتي التقييم و التقويم ،وبالتالي يكون العقاب أو الثواب .. ، و البدايات الصحيحة تؤدي حتماً إلى نتائج صحيحة طالما سلَكتْ الدروب المُقننة شرعاً و مشروعة آلية التنفيذ بحُسْن أداءٍ ناجمٍ عن التفكير الإبداعي و ترقب الشمس في صقيع الظلام .
و الترقّب لابدّ أن يكون على بصيرة ، وإدراك لماهية الأحداث الجارية ، والتي قدْ تتطلب في بعض الأحيان انتظاراً إيجابياً لتفعيل انعكاسات هذه الأحداث ، وكيفية التعامل معها .. ، أماّ الانتظار دون هدفٍ أو تخطيط يُعتبر انتظاراً سلبيا لا مجالَ له في ظل الأحداث العالمية سريعة التطورات و الصراعات ، و التي اتخذت من فسفرة القوانين و دماء الأبرياء وسيلةً لاغتصاب الحقوق و احتلال الأرض مع ازدواجية المعايير الدولية ، وزمجرات صواريخ الأسعار و فرقعة شعارات الوطن البديل و اختلاط الأوهام بالمواثيق الحقوقية للإنسان و التاريخ حتى وصلتْ إلى المقدسات الدينية ، وفي ظل هذه الصور القاتمة يأتي دور القلم وعبق الإبداع .. ،
ولكي يكون هذا الدور ناجحاً لابد من انتشار الوعي القومي وسرعة اتخاذ القرارات اللازمة لمعالجة هذه الأحداث
و منْ مناَّ يرفض انتشار النجاح؟
إنناَّ بحاجة إلى الانتشار .. ، وإلاَّ فلماذا نكتب؟
وَ مَنْ مناَّ يرقبُ بلا هدفٍ ، ولايرجو توصيل رسالة تحقيق آماله من العملية الإبداعية ، ولاسيما تلك التي تمسُّ الوطن ، وتنطلق من الخصوص إلى العموم ؟
و ما الفرق بين مبدعٍ وآخر؟
في قراءتي لقصيدة "صقيعٌ أراه" للشاعرة شادية محمد (شاعرة البحر)
يبدأ النص بحرف "الواو" ، و بعده عدة جمل فعلية في زمن الفعل المضارع ، و يفصلها استدعاءٌ للماضي بتحسر "وآهٍ" ليستكمل النصُ أبياته في المضارع حتى يختتم بفعل ناسخ دال على المضارعة أيضاً "ومازلتُ" مع تكرار أول فعل مضارع في القصيدة ، و كأن أحداث القصيدة تأخذ الشكل الدوراني حيث نقطة البداية/الفعل الأول هو نفسه نقطة النهاية/ الفعل الأخير في حلقة الانتظار الإيجابي/ الترقب
و الحرف "الواو" في أول النص إماَّ يدلُّ على العطف ، و هو عطف الفعل الأول على الفعل الأخير ، و بينهما الأفعال/ الأحداث المُولّدة لدائرة الانتظار هذه ، و يكون تحقيق الأمل هو فحْوى هذا الانتظار/الترقب ، و الأمل في ماذا؟ فيما تضمنته دلالات الأحداث/ الأفعال المكونة للدائرة/ القصيدة
و في تأويلٍ آخر .. قدْ يكون حرف "الواو" في أول القصيدة "واو القسم" ، و مجموعة الأفعال التالية لواو القسم هي في محلّ جرّ للقسم ، ممَّ يؤكّد أهمية تلك الأحداث .. ، و في الحالتين ، سواء "واو" العطف ، أو "واو" القسم يلتفت القارئ/المتلقي لما تتضمنه القصيدة
تستهلُّ الشاعرة قصيدتها بقولها:-
وأرْقبُ شمسَ النهارِ يطولُ انْــ .... ــتِظَارِى صقيعٌ أراهُ أمامِى
في البيت ثلاثة أحداث مُتتالية هي الترقب ، طول الانتظار ، رؤية الصقيع ،
و في البيت الثاني تستكمل نتيجة آخرأحداث البيت الأول ، و هو الصقيع الذي تراه ، حيُ تؤكد في البيت الثاني أن هذا الصقيع يلفّ الشعوب ، ثم يُجمدّ ابتسامة الطفل ، و بالتالي يتجمد حلم السلام .. ، أو كأنها تقول أن الصقيع يلف الشعوب ، و يجمد حلم السلام ، فتتجمّد ابتسامة طفل .. ، و هنا العلاقة بين ابتسامة الطفل ، و حلم السلام علاقة صالحة ذهاباً و إياباً ، أيهما (الابتسامة و السلام) يُمكن له أن يكون تابعاً للآخر
أماَّ في البيت الثالث يتم استدعاء الواقع المرير بفعل ماضي ، و بتحسر ، و كأن حالة التجمد للابتسامة و السلام هي التي استدعت تلك الحسرة على واقعنا الذي يناقض ما كانتْ تترقبه ، بل لتؤكد أنه رغم هذا المرار المرفوض شكلاً هو نفسه الدافع للاستفاقة ، و كأن شاعرتنا هنا تُقسم هذه الدائرة/الأحداث إلى ثلاثة أقسام ، أولها و ثالثها مُكون من ثلاثة أبيات ، أما الأقسم الأوسط/ الثاني هو بيت واحد فقط هو البيت الرابع .. تقول في البيت الثالث (نهاية القسم الأول من الدائرة) :-
وآهٍ فقد جاء يوم الخصام .... ومازال قومى بدون سهامِ
لقد جاء وقتُ الخصام ، و أحسبها تعني المعركة ، و القوم للأسف ليس لايملكون أدوات هذه المعركة (السهام) ، و المعركة قد تكون ثقافية أو سياسية أو اقتصادية أو .. ، و حتى تصل إلى أقصاها في تحرير الأرض ، فهل يُعقل أن تدخل معركة دون الاستعداد أو امتلاك أسباب النصر؟
و في القسم الثاني لدائرة الأحداث ، و هذا القسم هو قلبُ القصيدة ، و هو البيتُ الرابع الذي تُفصحُ فيه عن ماهية هذه المعركة ، و هي نصرة الحق .. ، وهل طبيعيٌّ أنّ القوم لايشعرون بأهمية هذا النصر الذي يحتاجونة فعلاً ، وله أقوى الدوافع ، و هو دافع الحق؟ و إن كانوا كذلك ، فقد غاب الأمان وراء حطام الدمار و الاحتلال .. ،
وقد جاء فعل غاب الأمان فعلاً ماضياً ، ومسبوقاً بلفظة قد لتوكيد الإقرار بالواقع الناجم عن اللامبالاه ، و عدم الشعور أو الإحساس بالمسئولية ، و من هنا تثير العاطفة لنصرة الحق و استعادة الأرض السليبة ، و تحرير الأرض ، و التحرير هنا هو الذي ترمز له الشاعرة بالشمس التي ترقبها ، و تستثير النفوس أكثر بأن توجه بعض الإشارات إلى ما أصاب تلك الشمس من "تضمحل الضياء" و تغطية ثلوج الظلام ، مما كان سبباً كذلك في اختفاء الفجر (ذوبانه في الماء) ، و تبديد الحلم بأيدي اللئام .. ، وأيّ حلم؟ هو حلم السلام الذي سبق وذكرته ، ومن هم اللئام؟ أولئكَ الذين اغتصبوا الحقوق ، ومعهم مَنْ ساعدهم سواء بالطريق المباشر أو بالتهاون في نصرة الحق ..،
و بهذه المواجهة تعودُ لتؤكد أنها مازالت ترقب الشمس/الحرية/نصرة الحقوق ، و بهذا يُمكنها تُنشدُ ، و تطلب السلام بقوة .. تقول في خاتمة النص:-
و مازلت أرقبُ شمسَ النهار .... و ما زلْتُ أنشدُ صوتِ السلامِ
جماليات مكنونة
- البدء بواو العطف ،أو واو القسم لتُبيّن أهمية الأحداث الجارية و الوعي بالأمور
- التنوع في الأفعال مابين المضارع و الماضي
- تشبيه الحرية بشمس النهار ، و الانهزامية بصقيع الليل ، و المقابلة بين هذا و ذاك
-الاستعارة في جملة "ذوبان الفجر في لجة ماء" ، و الجملة كناية عن اختفائه شكلاً لكن أجزاءه مازالت موجودة ، فمثلاً الملح أو السكر يذوبا في الماء ، ولكن يُمكن بالتبخر للماء استعادة الملح الذي كان قد اختفى في الماء ، و في هذه الكناية دعوة للعمل الجاد ، واستخدام الحرارة لاستعادة هذا الفجر
-التوازي بين شمس النهار و نشيد السلام .. ، فالحق لابدّ أن يكون انتصاراً فعلياً في وضح النهار ، و على يد أبطال هذه المعركة/الأحداث ، وليس بيد خفافيش الظلام/اللئام
-إضافة ياء المتكلم إلى لفظة قوم لاستمالتهم ، و توكيد القرب ، فيستجيبون لها
-و جود حرف "الفاء" قبل الفعل الماضي "غاب" لتوكد أن سرعة غياب الأمان كانت بسبب أن القوم لايشعرون بمايدور حولهم ، وبما ينبغي التفكّر فية لاتخاذ القرارات العملية وسرعة التنفيذ بحسن أداء لإحضار الأمان ، و بالتالي كرامتهم
-الترتيب المنطقي اللاشعوري للأفعال/الأحداث حتى تقنع كل ذي حجة ، و تُنبه الغافلين بالعقل
-استثارة العقل و الوجدان ، والنزعات القومية و الدينية/ نصرة الحق
-الكسر في تشكيل الرويّ للتعبير عن حالة الانكسار التي يمر بها الواقع ، ولكن الرويّ هنا حرف "الميم" بما لها من جرسِ و طبع في الأذن ، ولمس الشعور
-استثارة النفوس ضد مغتصب الحقوق و لصوص النبض و التراث بتكرار تداعيات الخمول مثل "الثلوج" ، "صقيع" ، "يجمد"
-و جود الجناس الناقص بين يذوب ، و يذول
-تكرار الفعل "مازلتُ" مُقترناً بناء الفاعل ثلاث مرات ، و لقومها "ومازال قومي" مرة واحدة ، و في ذلك إيمانٌ بدورها ، و توكيداً على أنها لن تمل من دعوة الأحرار ، و هاهي تتقدم
-بعض الموسيقى الداخلية بين نهارِ ، انتظاري
-الموسيقى الخارجية في التزام الرويِّ بالميم المكسورة
** و هكذا تستمر جماليات هذه الصورة الشعرية القصصية في حيوية ، و مشاركة المتلقى بألفاظٍ سهلة ، وعمق الفكر وحسن استخدام آلية توصيل الرسالة إلى المتلقي وهو مشدودٌ و مقتنع ومتفاعل شعورياً مع نبضات الطرح ، فيصير فاعلاً و منفعلاً في ذات الوقتِ ، و تأتي الرسالة بألغ أثر و هو الاستجابة
*** نُبْلُ القصد و موسيقى القصيدة :- الموضوع أمني قومي يدعو لتحرير الأرض ، ونصرة الحق ، و بالتالي يأتي السلام
و قد اتخذت الشاعرة من شكل التعبير الشاعرة دعوة للأصالة ، فقد كتبت القصيدة على البحر المتقارب التام ، و بالشكل العمودي للقصيدة ، و لم تغفل قيمة الصورة الكلية للنص مع الصور الجزئية حيث جعلت الحدث كلة في صورة دائرة نمرُّ بها ، ولابد من إدراك ماهيتها ، ومركزها و محيطها ، وكل مايخصها حتى يُمكننا التعامل معها ، و حتى في الترقب و الانتظار يكون بهدفٍ و أملٍ لا ينبغي أن ينطفئ ، فهو رهينُ الفجر و الشمس و النهار ، والحق ، و صلة الأرحام ، وكلّها من الدوافع التي يجب الحفاظ عليها ٍ ، والعمل بها و لنصرتها .. ، ولا يهملها أبداً إلا اللئام وخفافيش الظلام و مدمني الصقيع و الثلوج و غيرها من المفاسد ، و التربة الخصبة للظلم وضياع الحقوق .. ، و كما يقول الرسول الكريم "هلك قومٌ ضاع الحق بينهم" ..
و هكذا تتبين رسالة هذا النص العميق رغم قصر عدد أبياته/سبعة شكلاً ، ولكن المضمون أعمق و أشمل ، و خصوصاً مايلحق برقم "سبعة" سواء شهادة التوحيد ، أو عدد السموات و ألوان الطيف ، وأيام الأسبوع ، و غيرها بما لايُمكن حصر اسرار هذا الرقم كدعوة للتفكير الإبداعي و البحث و العمل الجاد لعملية التحرير المقدسة
و عندئذٍ تنطلقُ "زغاريد" الفداء ، لتعطر الكون ، و تُحيي المقاومة المشروعة لتحرير الوطن ، وتتعانق الأحلام و الأعلامُ و الأقلامُ مع زمجراتِ الشموخ و ألوية الحقّ و الأمواج الشهيدة ..
هنا رغم صقيع موائد المفاوضات ، تنطلقُ صواريخ الشوق إلى الوطن ، و نؤكّد على تحقيق الأمل بالعودة لاستعادة الأرض السليبة ،
و مهما طال الانتظارُ ، فالشمسُ نرقبُها وسْط غياهب الظلام
ما أروع هذا الترقب ، و بمثل هذا القصيد لن تغطي الثلوج ، و لن يذوب الفجر ، و لسوف يعلو صوت السلام الحقيقي ، و تحتضن شمس الحقيقة الأجواء ، وبإرادة الأحرار سيحل سلام الأقوياء
يتبقى:- أن نهنئ أختنا الشاعرة
شادية محمد (شاعرة البحر) بدفء الحرف ، و نقاء القصيد ، و خصوصاً أنها تمتلك أدواتها ، و ما عليها سوى مراعاة بعض الهنّات مثلغياب علامات الترقيم في القصيدة ، واستخدام بعض من التلاعب اللفظي الذي يُولدُ طبيعياًّ صوراً مُبتكرة ، و بإمكانها –أحسب ذلك- التضمين بالموروثات و تطويرها في تراكيب دقيقة لا تستجهل الأقنعة و الاسقاطات ، و مؤثرات العلاقات و الدلالات والإيحاءات بطلاقة أكثر ، و لعلّها بحسْن اختيارها للمفردة ، و مَوسقة الصورة ، و الاستهلال ،و الخاتمة في قصيدها المُمَيز "صقيعٌ أراه" تكون قد أرسلتْ قبساً في مساحة الدفء الشاعرة .
محبتي و تقديري