بسم الله الرحمن الرحيم
قراءة من الذاكرة ( 2 )
عبدالغني خلف الله
لدي زيارتي للمتحف الجنائي بمدينة( فيسبادن ) الألمانية مقر رئاسة الشرطة الجنائية المعروفة اختصاراً بال ( البي. كا. آ .) لفت انتباهي مصحف بالحجم الكبير وقد أخذ موقعه بين أرفف المعروضات الجنائية للجرائم المرتكبة بواسطة الأجانب والمقيمين ..وعندما إطلعت علي التفاصيل اكتشفت أن أحد الجناة القادمين من ذلك البلد الإسلامي غير الناطق باللغة العربية قد قام بتجويف المصحف الكريم تماماً من الأوراق التي تحتوي علي سور القرآن الكريم وأحل مكانها كمية من المخدرات ومن ثمّ طوي غلاف المصحف وتأبطه وهو يدلف إلي مطار فرانكفورت وكأن شيئاً لم يكن اعتماداً منه علي ذلك القدر من الإحترام الذي توليه الشرطة الألمانية للمعتقدات الدينية ولكن الله سبحانه وتعالي لم يكن ليساعد ذلك المجرم البائس الذي لم يجد شيئاً سوي كتاب الله الكريم ليخفي بين ثناياه ذلك السم الزعاف فاشتبه أحد رجال الشرطة في الأمر ولدي تصفحه للمصحف فوجيء بكمية كبيرة من المخدرات المصنعة لينال الجاني عقوبته المستحقة ..وهكذا وثقت الشرطة الألمانية بمتحفها الجنائي لتلك القضية بجوانبها المختلفة من حيث اسم الجاني والبلد الذي أتي منه وصورته الفوتغرافية وكيفية قطعه لأوراق المصحف الشريف وما إلي ذلك من تفاصيل وفي جانب آخر وثقت الشرطة لما اعتبرته الجريمة الأقرب للكمال في تاريخ ألمانيا من حيث دقة التخطيط والتنفيذ وإخفاء معالم الجريمة وملخص الجريمة يقول أن طبيباً قتل صبياً في منطقة مساقط الراين الشمالية بمنطقة ( الرور ) المنطقة الأشهر في انتاج الفحم الحجري علي نطاق العالم والتي يعمل بها زهاء الخمسة ملايين عامل في وقت كانت البلاد فيه تعتمد كلياً علي الطاقة المستخرجة من الفحم الحجري ..وبعد قتله للصبي حمله بعربته وأدخله لمنزله حيث يعيش لوحده وهنالك وضعه بغرفة الحمام وقام بسلخ بصمات اليدين وسلخ أيضاً جلد الوجه حتي لا يتم التعرف عليه وبعد ذلك عكف في صبر وأناة علي تقطيعه قطعةً قطعة ولف كل قطعة بورق الصحف ووضع تلك القطع الملفوفة بعناية فائقة داخل حقيبة كبيرة واستغل قارباً من أقصي نقطة في شمال الراين وصار يقذف في الماء بضاعته وهو يمخر عباب النهر.. وبعد الإنتهاء من هذه العملية قام بتنظيف حوض البانيو المستخدم كمسلخ وأية آثار من الممكن أن يستدل بها ضده ..افتقدت أسرة الصبي ابنها وأبلغت الشرطة بفقده ومضت أيام وأيام ولا أثر للإبن المفقود ..وذات يوم وبينما كان أحد المواطنين يتسكع علي ضفاف النهر قذف الموج تحت قدميه بلفافة الصحف تلك ليكتشف أن بداخلها قطعة لحم بشري فأبلغ الشرطة التي بذلت جهوداً جبارة وهي تفتش النهر صعوداً وهبوطاً حتي تمكنت من جمع أكبر قدر من تلك القطع المبعثرة ..ومن تاريخ صدور الصحيفة التي استخدمت في لف القطع استدلت الشرطة علي تاريخ الجريمة بالتقريب ومن ثمّ راجعت أسماء جميع الأشخاص المبلغ عن فقدهم في ذاك اليوم وكان من ضمنهم الضحية ولكن سلخ البصمات زاد من صعوبة التعرف علي شخصية أي مفقود ..وقد فات علي الطبيب الحاذق إتلاف القفص الصدري للضحية .. ونسبة لتعرض عمال مناجم الفحم الحجري للإصابة بالأمراض الصدرية والصبي منهم بالطبع فقد كانت شركات استخراج الفحم تخضعهم لفحص دوري بالأشعة ..لملمت الشرطة عبر الطبيب الشرعي أضلع الضحية وقامت بتصويرها ومضاهاتها مع خمسة ملايين صورة أشعة لتتطابق مع صورة أشعة للصدر أخذت حديثاً للصبي ومن ثّم قاد التحري لشخصية آخر شخص شوهد معه وكان ذلك الطبيب المعروف بشذوذه الجنسي فتم تفتيش منزله بعناية بالغة لتُكتشف بقعة دم صغيرة جداً في حمام البانيو وعلي صفحة باب الحمام والأجزاء المتبقية من نفس الصحيفة المستخدمة في لف اللحم البشري ..وبمواجهته بتلك الأدلة انهار واعترف بجريمته النكراء ..هذه الحادثة وسواها تقودني لذلك العدد الكبير من الجرائم الغامضة التي قامت الشرطة السودانية بفك طلاسمها لا سيما شرطة المباحث المركزية عبر التاريخ والتي توشك أن تغيب في عالم النسيان..ولو حاولنا أن نتطرق لتلك الجرائم لوجدنا قائمة طويلة من الحوادث منذ قتيلة الشنطة وأحداث نهب البنوك علي محدوديتها وقضية الطفلة شيماء التي أغتصبت وقتلت ومن ثمّ ألقيت جثتها في النهر ومرة أخري تتدخل العناية الإلهية لتلقي بالجاني البغيض في قبضة العدالة ..فلماذا يغتصب مراهق طفلة صغيرة ويقتلها ..هل سأل أولي الأمر في أمتنا أنفسهم كيف وبم يقضون هؤلاء أوقاتهم والقنوات الفضائية الماجنة تعبئهم بالرغبات المحرمة فيلجأوون لمثل هذا السلوك الإجرامي المرفوض في غياب شبه تام للرقابة الأسرية ..وكذلك جرائم غسل الأموال والإحتيال بأنواعه والجريمة العابرة للحدود .. فليتنا ننشيء متحفاً جنائياً بالخرطوم لتوثيق تلك الجرائم بمساعدة الفنانين التشكيليين والمختصين في فنون النحت والديكور والضباط الذين قادوا عمليات التحري واختيار موقع متميز يمكّن المواطنين والأجانب من زيارة المتحف مقابل رسم بسيط ولمنح الدارسين في علوم الإجرام مادة حيوية للبحث والتعلم وبالله التوفيق .