بلا هويـــّـة
المشهد الاول
رجلٌ طويلُ القامة , بهيّ الطلعة , جميلُ الوجه
بعينين سوداوين , و شعرٍ أسودَ طويل
ولحيةٍ كثة سوداء
دمث الأخلاق , ليّن الجانب
عمامتة رقيقة و عباءته فضفاضة
هذه بيضاء و تلك
فصيح اللسان , عظيم البيان
متزوج من حسناء زمانها ودرة عصرها و أوانها
فارسٌ لا يُشقّ له غبار
يمتطي صهوة جواد عربي أصيل
أمُّه النعامة , فرسُ الحارث بن عباد
و أبوه الأبجرُ , حصانُ عنترة العبسي
المشهد الثاني
يُنصب للرجل كمين
بعد مؤامرة طويلة عمرها أكثر من ألف عام
فيقع أسيراً في يد عصابة حاسدة حاقدة
و يؤخذ في الحال إلى غرفة العمليات
وهناك كان في انتظاره حشد كبير من الشامتين
و..
طبيبٌ جرّاحٌ خبيرٌ في التجميل
ينزع عنه عمامتَه و عباءتَه
و يحلق لحيته
و يسلخ جلدَه الأسمر الذي بلون الأرض
و يستبدله بجلدٍ أصفرَ كلون أوراق الخريف
و يصبغ شعره باللون الاشقر
و يثقب أذنيه و يضع فيهما قرطين
و ينتف حاجبيه و يرسم مكانهما حاجبين رقيقين
ويلبسه " بنطال جينز" ضيقاً
و قميصاً بلا أكمام
يفتح منه الأزرار الثلاثة العليا لكي يُظهر شعرَ صدرِه
و يرسم على يديه مزيجاً مقززاً من الأوشام
المشهد الثالث
يوقظون الرجل و يسوقونه كالبعير
و يعطونه عوضاً عن حصانه دراجة نارية !
و عوضاً عن زوجته الطاهرة , يعطونه خليلةً خليعة نصفَ عارية !
و عوضاً عن مسواكه الصغير ذي الرائحة الزكية
" سيجارا كوبياً " غليظاً ذا رائحة كريهة !
المشهد الرابع
يستعيد الرجلُ وعيَه شيئا فشيئاً
فإذا هو في ماخور
و مِنْ حوله الكاسياتُ العاريات يتراقصن كالقرود
و على طاولته ألف لون من الشراب
و عن شماله ...خليلته , سكرى
ينظر حوله و يحاول أن يتذكر
ما الذي حدث ؟
و يتذكر !!!
ماذا أفعل هنا ؟
أين لحيتي ؟ و أين عمامتي و عباءتي و حصاني ؟
و كيف تغير لون جلدي ؟
و ما هذه التفاهات التي في أذني ؟
و ما ؟ و ما ؟ ومن ؟ ومن ؟
وتغشى الرجلَ سكرةٌ كسكرة الموت
ليست هذه أخلاقي , ولا هذا جلدي و لا هذا مكاني
يا للعار ..
و تضيق عليه الدنيا
و تشتد عليه سكرته
كانت سكرةَ الموت فعلاً .
يقع الرجل على الأرض و يموت بذبحة صدرية
حسرة و كمداً ..
المشهد الخامس
يحتشد السكارى هناك ينظرون إليه و هو ينازع
و يفرحون
يطلبون سيارة الإسعاف للتخلص من جثته
ينقلونه إلى ثلاجة الموتى تمهيداً لدفنه
و هناك في المستشفى
يفتشون في أشيائه لإثبات هويته
و لإثبات واقعة الوفاة
فلا يجدون شيئاً
ماذا يفعل هذا الغريب في بلادنا ؟
لا جواز سفرٍ و لا هوية
يتهامسون
لقد سُرقت هويته
لقد اختُطف و جيء به الى هنا لمسخه و إضلاله
و جعْلِه واحداً منا
أو قولوا : واحداً من أذنابنا و عبيدنا
فلم يتقبل الأمرَ و مات
نحن نعرفه جيداً قبل أن يصبح مسخاً
كان سيداً عظيماً
يقررون تشريح الجثة لإثبات سبب الوفاة
المشهد السادس
و في قلبه ..
في قلبه فقط ..
يجدون بطاقةَ هويته الأصلية مزروعة في ناحية بعيدة من الفؤاد
يستخرجونها و يقرؤون ...!!!!!
- الاسم : الشعر العربي
- اسم الأب : الأدب العربي
- اسم الأم : اللغة العربية
- الصنعة : إثراء البشرية بأسمى الفنون , و تقريبهم إلى حب كل ما هو
راقٍ و جميل .
- الإقامة : في وجدان كل عربي
- العنوان : بحور الفراهيدي
-علامات فارقة : شامة في خد الزمان
- العمر : غارق في القدم , و موغل في المستقبل .
- تنبيه : " رغم أنف الحاقدين "
يضحكون و يسمرون و يشربون نخب موته
ثم يقررون دفنه
يضعونه في قبره و يهيلون عليه التراب .. و يمضون .
المشهد السابع
يظهر الرجل في أرضه من جديد
على هيئته الأولى بعد غياب
أكثرَ شباباً
و أكثر نضاراً
وأعظمَ طولاً
هل هو ساحرٌ ؟ ربما .
أم هو وليّ ؟ ربما أيضاً
المهم , انّه رجل كان يُسمَعُ عنه
انّه لن ينتهيَ إلا بقيام الساعة
يستقبله أبوه , الأدب العربي
و أمه , اللغة العربية
وزوجته , العروبة
على الباب
ولا يسألونه أين كنت
لأنهم يعرفون
المؤامرة و المتآمرين
يبتسم لهم
ثم يُطرق هنيهة و يقول :
منذ اليوم ..
سآخذ حذري , و لن أخرج بعد الساعة بغير سلاح
و لن أدير ظهري لعدوّ أبداً .
بل و أكثر من ذلك , سأقاتل ما حييت حتى أستعمرَ الأرض كلها
و أطهّرَها بعد ذلك من اللصوص و المتطفلين و قطاع الطرق
و الحاقدين على الإرث العربي العظيم .
هاتوا سيفي و درعي
و هاتوا حصاني
و استنفروا الغيارى
لا هدأتْ ساحاتُ الوغى بعد اليوم
و لا نامت أعينُ الجبناء .
محمد البياسي