خربشات فنّيّة
بقلم: حسين أحمد سليم
الفنّ سمة حضاريّة راقية لمطلق مجتمع يتمتّع بحياة مميّزة, والفنون ترسم للتّاريخ المستوى اللائق والمرموق للمجتمعات أينما حلّت في امتدادت الأرض... بحيث يعكس الفنّ الجلي والواضح رؤيا مدروسة للواقع الحقيقي لحياة المجتمعات في كافّة الأمكنة المأهولة, فتتلاقى الثّقافات لتتبادل الرّؤى وتتكامل وتتلاقح لتتوالد الحضارات المتجانسة, فتسود المحبّة وتطمئنّ النّفوس لبعضها البعض ويشيع السّلام في كلّ أنحاء المعمور...
الفنون التّشكيليّة ناحية مهمّة من نواحي الفنّ الذي يشمل الكثير من الأصناف الفنّيّة, وكلّما اتّسمت الفنون التّشكيليّة بالوضوح والجلاء واقتربت من مفاهيم النّاس, ولامست ما يتوقون لتحقيقه في مسارات عيشهم, كلّما لاقت هذه الفنون النّجاح وشاعت في المجتمعات, وسكنت في قلوب أفراد هذه المجتمعات وفي عقولهم لفترة طويلة...
الفنّانون التّشكيليّون مجموعة معيّنة من أفراد المجتمعات, تشاففت رؤاهم وامتلكوا البراعة والخلق والإبداع, فدرسوا الفنون التّشكيليّة واتّقنوا أسرارها بعدما خاضوا الكثير من التّجارب, ومارسوا حركة فعل الإبتكارات ورفد الثّقافات الفنّيّة بكثير من التجديدات, التي تمسّ رؤى وطموحات ومعاناة وأحاسيس المجتمعات التي يعيشون في أرجائها, فبرزوا وشاع صيتهم بين النّاس وغدوا أعلاماً خفّاقة تتناقل ذكرهم المجتمعات من جيل إلى جيل...
حركات الفعل التّشكيلي بتجسيد الرّؤى الفنّيّة لدى فنّان ما, تدلّ بشكل أو بآخر على ما هو سائد في مجتمع ما من تقاليد وأعراف وأنظمة وفلكلوريّلت وثقافات وغيرها, وبقدر ما يكون الفنّان صادقا مع ذاته, بأمانة تحويل الرّؤى إلى خطوط وأشكال وألوان تتماهى في مشهديّات ولوحات, بقدر ما تأتي أعماله تعكس هذا الصّدق وتلك الأمانة من خلال العناصر المستخدمة في بنائيّات اللوحة, والتي يجب أن تكون على تماسّ مباشر بمفاهيم الجمهور الذي يعيش فيه الفنّان, ليستطيع هذا الجمهور من فهم ما يبتكر هذا الفنّان أو ذاك, وإلاّ يُنبذ هذا الفنّان وتُرفض أعماله ويدخل في قوقعة الإنزواء عن البيئة التي يمارس عيشه فيها, وتُختصر إدراكات ما يبتكر وما يُجدّد في مشهديّاته ولوحاته الفنّيّة فقط على عدد قليل من المتخصّصون بالفنون التّشكيليّة... وهذا لا يعني أن يهبط الفنّان بمستوى تجاربه الفنّيّة وهوي إرضاءا لعموم النّاس, بل يتطلّب منه التّبسيط في تناوله الفني وحوارات عناصر لوحته مع المتلقي, ليتم التّفاعل المنشود فيتأدّب المتلقّي ويترقّى بالجمال الذي يراه, وبالتّالي تتم المساهمة من قبل هذا المتلقّي لإنجاح الفنّان وتعميم تجاربه الفنيّة...
هناك البعض ممّن تُراودهم أنفسهم لتسلّق هرميّة الفنون التّشكيليّة لغاية في نفوسهم المريضة بالأنا, مُعتمدين على طبيعتهم غير المثقّفة ثقافة فنيّة متكاملة, والذين يستبقون مراحل اكتنازهم بالخبرات والتّجارب والأسس والمباديء التي يجب أن ينطلقون منها... فيُقدمون بلا تفكّر أو إدراك للنّهايات على خوض غمار العمل الفنّي التّشكيلي, ويبدؤون بخربشاتهم التي لا تعني سوى تداخل الخطوط والألوان ببعضها البعض بشكل عشوائي, وكأنّ مجموعة من الزّواحف أو الدّجاج غاصت في مجموعة من الألوان وراحت تتراقص وتلعب فوق قماشة بيضاء, لينتج عن تراقصها ولهوها خربشات لا يفهم مكنونها أحد... ويقومون هؤلاء الفنّانون بتسويق إعلامي لنتاجهم الذي يُلبسونه الطّابع التّجريدي أو التّرميزي أو السّوريالي, ويُقدمون على المجازفة بلعبة أخرى ويعرض نتاجهم الطلسميّ الهابط على الجمهور ليصفعهم هذا الجمهور بفعل الرّفض, لعدم استطاعة هذا الجمهور المتلقّي فهم ما تنطوي عليه أعمال هؤلاء المُخربشون في لعبة الألوان, والذين يُقدّمون أنفسهم إلى النّاس كفنّانين مبتكرين ومبدعين, وما هم إلاّ حفنة نرجسيّة يعبدون أناهم ولا يفقهون من الفنّ حتّى الإسم, وإذا ما طلبت من أحدهم التّجريب بحضورك لعمل كلاسيّكيّ أو انطباعيّ أو واقعيّ رفض طلبك حتّى لا يقع في المحظور, ويُحاذر الإشتراك في التّجمّعات العامّة الفنّيّة, وإذا ما سألت أحدهم تفسير ما ابتكر من خربشات تلوّن وجهه بألوان خربشاته وأصابته الرّجفة الفجّائيّة, وانسحب من أمامك بخفّة لاعبي الهرطقات السّحريّة والتّنجيميّة...