تعلّمنا أن الإبداع في كل فروع الأدب من الأشياء التي ليس من الفخر أن تقرنها بـ"التعب" بمعناه المباشر.. حيث أننا لا نتحدث عن حرفة يدوية أو حتى عن بحث علمي..
الفرق جليٌّ في أكثر من شيءٍ أبسطهم هو أنّ الباحث أو الحِرَفي يطالَب بشرح ما أنجزه حتى يكون ذا نفع.. أما الإبداع فالحرفية لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من تكوينه في الوقت الذي يكون أغلب اعتماده على المهارة الروحية للمبدع والتي تجعل حلقة الوصل بينه وبين متابعه هي التحليقِ والتخَيل.. لذا فالأديب لا يكون مطالبًا بشرح عمله.. ولا يدري أصلا عندما يكتب عملاً جيدًا كيف كتبه!
بل إن الشرح فيه يفسد متعة التَّلقي.. ويبعثر ما تجلى في ذهن المتلقي تفاعلا مع العمل.. فقد يفاجأ من تعددية القصد ببطلان ما تخيله.. لأنك تُوقِعه بشرحك –دون قصدٍ منك- في إحساس بالخدعة والهدم يجعله أشبه بمن هامَ بامرأةٍ إعجابًا بعينيها ثم أفاق على "المقلب المعتبر" وهو أنها تلبس عدسات لاصقة! فإن صارحها بهذا أوقعها في حرجٍ لا تجد له علاجًا إلا الانسحابَ.. حيث تشعر أنّها تلقّت صفعةً على كرامتِها.. يشعر بمثلها الكاتب أيضا حين تخبره أنَّ المعنى الذي أعجبتَ به حال استنباطك أعمق من الذي طالبته بالشرح فقاله.. ولا يغيب عنّا بالطبع أنّه قد لا يتعمد أي معنًى حين يكتب.. فهو يخرِج ما يمليه عليه الإلهام..
خصوصا إذا ضيّقنا الرؤية لنطبقها على "الشعر" على اعتبار أنه أكثر فروع الإبداع اعتمادًا على الدفقات الشعورية اللحظية.. مما يوضح أن الأمر يعتمد على الانسيابية التي تجعل الكاتب في حالة من الانتعاش تنتابه فتغطي على الشعور بالجهد المبذول..
الأمر الذي يدعو الكاتب إذا خطرت له فكرةٌ أن يرجئَها إلى اللحظة المناسبة التي تكون فيها قد اختمرت ونضجت بما يكفي فلا يُحس حال الكتابة بأنه يعصر نفسه أو تنتفخ أوداجه وهو يقاتل من أجل إخراج المعنى!
وبمقارنة الحالتين نحتاج لتدعيم الوصف فيهما إلى مثال
فلو أنَّ هنالك من أتاك مفاخرًا بأنه عندما انقطع الغاز عن الموقد ذات مساءٍ في بيته وهو يعلم أنّه سيحتاج في الصباح إلى كوبٍ من الشاي.. وعلى علم أيضًا أن الغاز سيعود من انقطاعه في صباح اليوم التالي.. فإنه قد آثر أن يقوم بعمل بطوليٍّ عمادهُ الصبر.. وهو أن يملأ براد الشاي ويضعه على شمعةٍ حتى يتزامن وقت غليانه مع طلوع شمس اليوم التالي.. بل وسهر الليل بجواره!
يباهيك وكأنه عملٍ بطوليٌّ فعلا.. في حين أن أول شيءٍ يسمعه منك هو: ألا ترى معي أنك بهذا الجهد والسهر قد أهلكت ما تبقى من مزاجٍ للاستمتاع بهذا الكوب؟! ماذا لو انتظرت عودة الغاز لتقوم بما قمت به بمزاج رائق مصدره سرعة إنجازك دون أن يفوتك إدراك الوقت الذي اعتدت احتساءه فيه؟
وهكذا الإبداع..
وهناك نقطة أخرى تتعلق بالوعاء الذي يَحمل هذا الإبداع المنجَز.. إذ أنه من المعلومِ ان اللغة هي وعاء النَّص.. لذا لابد أن يكون هذا الوعاءُ سليمًا وهذا ما يجعل إجادتك للغةِ واستخدام المفردات المناسبة منها هو ما يضمن ألاَّ يسقط شيءٌ من جمال المعنى حتى يصل إلى المتلقي.. فيجد المتعة فيما يتلقاه حتى في الأجزاء التي قد لا يفهمها من القراءة الأولى أو الاستماع الأول.. تراه يجد لذةً ما حتى في ما وراء اللفظ من دلالة قد تختلف من شخصٍ إلى آخر.. ولا يكون هذا إلا من خلال لغة متماسكة تمكَّن منها صاحبها ووسع لديها قاموسه.. علاوة على أهمية اختيار الشريحة التي يوجه إليها النَّص.. فلا تجلس وسط رابطة للزجّالين مثلا وتقول نَصًّا مفعمًا بالرمزية
فإذا استعنّا لتأكيد منطق الوعاء هذا بمثالنا الأول (براد الشاي) وجدت أن ذلك الشخص الذي استكمل غليان الشاي إن قام بصب البراد في كوبٍ يخفي شرخًا ما ولم يجتهد منذ البداية لاكتشافه فمن الطبيعي أن (الكوباية تطق منه!)..
وقد يكون السبب في هذا شيءٌ آخر غير أنها (كوباية شاي مكسورة).. وهو أنه قام بصب البراد دفعةً واحدة.. فمن ناحية يكون قد أهدر الكثير مما يحتويه.. وفي الوقت نفسه دفع إليها ما يفوق استيعابها ولا تستأهله فانفجرت!