قلت لأدع الفأرة اليوم تبحث لي عما أقرؤه دون أن أحدد لها مسارها مثل كل مرة فكانت رحلتي مع النص الأول:
الأخ جاء بكل ما يخطر و لا يخطر ببالنا من كلمات رقيقة يغار منها الندى لرقتها
فلقد افتتح النص بحلزونة تبصق دما ثم عرج على جثة دودة قميئة في عتمة قذرة و ختمها بكلب يتبوأ ... "في أمريكا اللاتينية" كما قالها الشاعر الإمام عادل
و لم يبق كلمة تدعو للاشمئزاز و لا سائلا يخطر ببالنا في عملية التمثيل الغذائي إلا و حشرَهُ في متن النص المتين حتى خيل لي أنني أقرأ درسا في علم تشريح الديدان !
فهربت خوف أن تصلني روائح الحرف فحسب نظرية العبقري "ميتنثري" أن للحروف عطورا يستطيع أن يرشها عليك الكاتب نثرا كالرذاذ يسقط على رأسك ! و أنت وحظك من نوع و كمية العطر !
فإما أن يصلك عطر مومياء استقرت في جوف ليل النص أو قد يصلك عطر اسفنجة نائمة في قاع البحر فأخرجها لك الأستاذ عبقري لتشم عطرها !.
وبَّخت فأرتي و أمرتها أن تغير وجهتها ففعلت و وجدت نصا باسم أنثى
فرحت فحتما سأجد الرقة التي أنشدها في صباحي مع فنجان قهوتي و أغنية "لزرع لك بستان ورود"
فوجدت الأخت تقود ثورة بمعنى الكلمة يخالها القارئ أخت عنترة بن شداد فخيول قلبها قد أسرجت ثائرة عليه مهددة بسهام عينيها و قد طرحت ضفائرها حبالا لتقيده بها و من فستانها قد قدَّت خرقا لتكبله أسير عينيها و توعدته الويل و الصد و الهجر و الثبور منددة شأنها شأن حكامنا العرب المخلوعين منهم و الذين ما زالوا يقفون في الطابور ينتظرون دورهم في حكم الخلع...المهم واصلت القراءة لأعرف نهاية هذه الحرب الشعواء و أسبابها فبقيت أركض خلف قلبها بدربكته و كرِّهِ و فرِّهِ في ساحة القتال حتى توصلت لمعرفة سبب هذه الغبراء فالأخت هنا تثأر لجرحها، فهو لم يرسل لها قبل النوم رسالة على "الموبايل" يقول لها : تصبحين على خير
حقدت عليها و على طائراتها و مدافعها و دباباتها و قلبها الذي يشن الحروب و الحروف زورا و بهتانا و بدون وجه حق و تمنيت لو أن أحدا من أخوتي في العراق أو من أخواننا في اليمن و ليبيا أو سوريا لا يقرأ حرفها أعني حربها هذه فيكتشف ضآلة معاناتهم أمام حجم معاناتها !
حتى فؤاد غازي غير نبرة صوته في غنائه فصرت أسمعه يقول : "لقطع لك بستان وعود و أهبل لو يوم بوفيكي" !
خشيت من وصول الجيش لميدانها لفض هذه المعركة و قد يصيبني ما يصيب المتظاهرين و الثائرين هذه الأيام من غاز مسيل للدموع أو هراوة تضل طريقها و تنتهي إلى رأسي فهربت من الصفحة لا ألوي على عودة.
قلت لأجرب للمرة الثالثة علِّي أحظى بنص يعيد لي نضارة مزاجي التي فقدت بعضا منها في مختبر الأستاذ أبو حلزونة و بعضها في ساحة الأخت العبسية أم سيفين و مقصلة...
قرأت عنوان نص كان الطيب يفوح منه فاستبشرت خيرا و أمرت فأرتي أن تدخلني و بدأت رحلتي مع النص فبدا لي و كأني دخلت لاستوديو تصوير فوتوغرافي فالصور في كل مكان من الصفحة المسكينة التي اكتظت بصور الورد و النساء و الطائرات و علب التونة !
لم أستطع التحكم بمساحة عيني كلما تقدمت خطوة في ساحة النص فلا أدري ما الذي جعلها تكبر تارة و تضيق مساحتها تارة ربما الحيرة و عدم الخبرة في قراءة مثل هذه النصوص ؟!
فالأخ لم يبق سحابة إلا و أدخلها في عوالم الدهشة ولا مزمارا إلا و جعله اسفنجة حبر تمتص غيمة باذنجانية اللون فتتحول إلى كفين من برزخ و رماد يقودان تنينا سجينا لا يقوى على حمل تراتيل الصباح الغارق بفلول الضباب فجعل سندريلا تهرول نحو مساحات تخاريف الصهوة ليبتلَّ عرق الشمس بعصير الفراولة منثنية بقصبة في أفق لم تحدده زاوية الوسادة المهجورة إلا بقدر كف نملة ماتت من وجد في أصقاع حرية خرِبَةِ لا تفقه سر الندى و السرابيل و القطن الأحمر و الجاذبية المبتلاة بعمق الأساور على جدران نبض نشوة الدعسوقة الكبرى !
لا حول و لا قوة إلا بالله بتّ لا أعرف هل أن حروف الكلمات هي التي تتزحلق على لساني بفعل الكلام "السايح" أم أن ثمة لوثة أصابت جهاز اللاب توب فصار لا يظهر لي الكلام مسطورا و منثورا ؟! أم أن النص هو عبارة عن كلمات صفت كيفما اتفقت و اتفق معها صاحبها ثم وجد من يصفق له باسم الحداثة و لم يجد من يوقفه عند حد الاعتداء على ذائقتنا و منعه من السطو جهارا نهارا على لقب "شاعر" و يصارحه بحقيقة عجزه عن أن يأتي بكلام موزون فاستعاض عنه بكلام لا ثقل له و لا خطوط أو معالم واضحة بل لا طعم له و لا لون و لا رائحة و نحتاج لسبع عرافات و ست قارئات فنجان و عشرة مشعوذين لفك طلاسم الحروف...
تركته حفاظا على ما تبقى من ذائقتي التي مخرت عباب هذا الترف و النزق الشعري لناس موديل جديد تكتب السريالية و ليسوا مثلي "موديل عتيك" كما نقولها في العراق...
هنا كنت قد فقدت كل أمل في نص جميل مع فنجان القهوة لولا أن صادفت عنوان نص آخر يشي بشيء من الجدية و الحكمة فابتسمت فرحة كمن وجدت وليدها المشاكس اللحوح بعد أن فقدته في سوق مكتظ بمحلات لعب الأطفال فدخلت مستبشرة حرفا و خيرا و ...
بعد قراءة السطر الأول بدأت أخفض صوتي تدريجيا خشية أن يسمعني أحد أخوتي فيسوؤهم الحال
فلقد كان نصا منزوعا عنه برقع الحياء، فاجتمع الذباب و قضم لسانها.
و بين مصدقة و مكذبة لما أمام عيني من حروف ضلت طريقها و لم ينتبه أحد إلى أن الرذاذ قد يتحول إلى حمم و براكين تأتي على كل أخضر فتحرقه أغلقت لا ألوي على قراءة في صباحي الذي كان جميلا فصار بائسا ملتويا بسبب هذه النصوص/ هذا النكوص
حينها سمعت صوت هتاف عال في أذني : الشعب يريد إنهاء الفساد !