نتحرك في كل مكان لنبحث عن حيز للاحتماء فلا أمان ، وغَرَسنا شجراً وورداً وأغصاناً وأحلاماً في محيط البيت فلم يبق منه شيء ، لقد اقتلعته دبابات حاقدة لتفسح الطريق وتمهدها بخطوط وحشية متجه نحو البيت لانتزاعنا من جذورنا ، ويحاصرنا رصاص وقنابل ، وأصوات تنهش عظمنا ، وتأمرنا صيحات الجند بأن نترك المكان ونرحل ، وأزيز طائرات يدوي في كل مكان ومدافع تقصف حمماً من بعيد ، فإلى أين نذهب وكيف ؟ فنحن أكثر من عشرة أطفال صغار ويافعين وشباب وزوجة مريضة وشيخ كبير ، وإن تركنا البيت فلا بيت ! لكنه الزجاج يتطاير وأركان البيت تهتز وتعتز ، فانسحبنا من الركن الجنوبي وانطلقنا لأقارب لنا ؛ لنفر إلى أقدارنا ومعنا : محمد وأحمد وحسن وإبراهيم وخالد وأم محمد وأبو محمد وسمية وعائشة وهند وأم حسن وأم إبراهيم ، ولما وصلنا لشارع صلاح الدين لمحت في عيون الأبناء إصراراً وقوة ، وفوق رؤوسهم عز ومجد وبأياديهم رايات خافقات، وفي قلوبهم عشق للأرض وللدار وللبيت .
يسير الموكب عظيماً رغم ضعفه قوي مزلزل له هيبة تخشاه الطائرات التي تنسحب من سماء غزة ، وفيه وقار العظماء من الفاتحين ، وفي مقدمتهم إبراهيم يأبى إلا أن يكون الأول ويعشق المقدمة ، ويحتمي الجميع بجسده الصغير الطاهر من رصاصات حاقدات غادرات تنهمر كالمطر ؛ ليتفرق الموكب ويسقط إبراهيم حاملاً رايته ليلتقطها من معه ويحملوه مكبرين ! لقد أصابته رصاصات فيعتلي الأعناق وتسبح عيونه فرحة بجسده الذي كان حافظاً لأهله وعشيرته وتزغرد النسوة باكيات .
لما يمت إبراهيم ... ويحتمي الجميع في بيت قريب وتحتضن الأم ابنها الجريح تضمد جرحه النازف وتذرف دموعاً حارات تنزل باردة على جبينه ، وسيارات الإسعاف قريبة لكنها لا تجرؤ على التقدم وكلما حاول أحد أن يسعف الجريح تعالجه الرصاصات والقذائف فيتراجع آسفاً ، إنه الموت في كل مكان وإن لم تفقد الجسد فسيكون بتر لقطعة منه ، والأم ثكلى وإن لم يمت إبراهيم : لكنها الإبرة والخيط سوف أربط الجرح بإبرة وخيط ليقف نزف القلب ويشفى الجرح ، وتمسك الإبرة ويدها ترتجف وتغرس الإبرة في الجسد وتخرجها وألم يعتصرها ويحتويها وتشتعل أحشاؤها وترتعش أوصالها ونور يصعد من جبينها وجبينه حبات عرق ندي ، وتنبعث رائحة مسك في كل مكان ، والجميع يناشدها ألا تفعل وينظرون إليها معاتبين قسوتها مشفقين عليها ، لكنه الأمل بأن يعيش ويحيا وحين تنتهي من وخز آخر إبرة في الجرح تنتهي آخر قطرة من دمه الطاهر وتسقط آخر دمعة من مقلتها وينظر إليها إبراهيم مبتسماً لتفارق روحه الجسد وهو في حضنها فتقف بعز وشموخ وتقول الحمد لله .
لا نهزم من خوف يتربص في كل مكان وشوق وضعف يشعرنا ببرد كانون ، وإن أخفينا آلامنا وأحلامنا وعطر أنفاسنا سنشعر بدفء إرادتنا ولن نستسلم لظالم ولن يكسرنا قيد سجان ، وسنجمع كل ما تبقى منا ونعود ومعنا كل مفاتيح الدور لنحمل غرسنا وبذرنا لينبت عشقاً في سهولنا .