الذات الشاعرة في سدرة آزال
عمار زعبل الزريقي
الشعر حياة وتعبير عن حياة بإشراقة بيان وسمو معان، وبذلك يكون مؤثراً ورائعاً وجميلاً لأنه نابع من ذات شاعرة قابلة للتطور والتنوع، وقد عرفنا بأنَّ الشعر ماهو إلاَّ طريقة من طرق التعبير، ألم يقل العقاد بأنه الشعور بجوهر الأشياء،فماهو حال ـ ياترى ـ الذات الشاعرة المتصوفة ـ كيف تختزل الكلمات وكيف تعبر حينها؟! الإنسان البدائي وببساطته كان يعبر عما يحس به ثم اخترع الحداء ثم تطور الشعر بتطور هذه الذات،لأن الذات الشاعرة هو إنسان دائم البحث عن طرق جديدة للتعبير كلما تجددت الحياة أو تطورت،وظهرت ألوان حضارية جديدة،والشعر التصوفي، هو أدب حي نابض بالحياة الملكوتية لذا فيه معاني البقاء، فتتداوله الأجيال،لأنه من الحياة ولمن يعيشون الحياة، لأنه قيمة وذو قيمة لايواريه الزمن،وإنما يزيده قيمة بالدرس والبحث ودقة التأمل،كماهي حال الآداب المتجددة القوية التي لاتطويها الأيام.
وشعر التصوف هو أكثر من نشاط روحي ومصباح للواقع، هو خلق فني فيه ولادة شعرية بديعة تتجمع فيها الخيالات والآفاق الفسيحة المتعددة عن الحياة وهمومها عن طموح الروح المتوثبة للخير والجمال والحق على طريقة ابن علوان الذي ملأ الآفاق ذكراً وحديثاً،لأنه حمل رسالة حق وعدل فغدا مثالاً وقطباً لاينسى في ذاكرة اليمنيين،وكل ذلك من نتاج تفاعل الذات الشاعرة المتصوفة،وفي«سدرة آزال» ديوان شعر لمتصوف وهب نفسه للتصوف وعالمه الجميل نجد ذلك وهو ما سنحاول الحديث عنه في هذه السطور.
منمنات صوفية
محمد نعمان الحكيمي يقودنا من الوهلة الأولى للديوان للولوج إلى عالم التصوف بنص بديع فيه من عالم الروح والصفاء والنقاء،والمحبة والسلام،حيث المثال والنبع الصافي المتجدد بتجدد النفس، وهذا ماأشارت إليه الدكتورة إعتدال الكثيري من خلال تقديمها للديوان، إذ أنه يبرز الاتجاه الصوفي شيئاً فشيئاً، ومن مفهوم جديد للخلاص، ومن واقع مرير تعيشه الأمة منذ زمن بعيد، وذلك بتطهير النفس، وخوض الصراع الداخلي وإن كنت لا أتفق مع رأي الدكتورة بأن اتجاه الشاعر الصوفي هذا هو مفهوم جديد للخلاص،بل هو موضوع وفكرة البديعيات أو النبويات أي القصائد التي قيلت في مدح النبي صلى الله عليه وسلم بداية من بردة البوصيري المشهورة، ومافيها من العودة إلى النبع الصافي بحثاً عن المخلص والتعلق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم نشداناً للخلاص من واقع الأمة المؤلم من تكالب أعدائها عليها عسكرياً وفكرياً، على نحو مايعانيه الحكيمي الشاعر اليوم والتي أفصح عنها في ثنايا الديوان من تبنيه لقضايا عدة مثل قضية دار فور في قصيدة «أحد .. أحد» أما قصيدة «أشبه بالظلال» فهي قصيدة صوفية بديعة تعطينا صورة متكاملة عن ثقافة الشاعر الذي تشبع بها وتعطينا فكرة عن فلسفته الشعرية، وماذا تعني له الحياة بمعناها الأسمى والأرفع فهو يحط كل عالمه وشعره ونتاجه الفكري أمام حضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
يكون الشعر أشبه بالظلال
إذا مالاح طيفك أو بدا لي
وتسفر في عيون الفيض روحي
متوجة بأسورة الهلال
وتخضر الرؤى في قاع نفسي
وترفل بالسَّنا كفُّ الخيال
وتمتزج اشتعالات الروابي
بتبريح الجداول والتلال
إنه التوظيف الجمالي لمخزون الشاعر من ثقافته الصوفية المليئة بالأسرار والرؤى المادية والغيبية،فعمل على تشخيص الصور نتيجة لارتباطها في ذهنه ووجدانه فأضفت نوعاً من التشكيل الجمالي، جعل من شعره شبيهاً بالخيالات أو صور الأشياء، وجعل للفيض عيوناً، وللخيال نوراً،وللروابي اشتعالات، وللجداول تباريح، فهو التشخيص الإبداعي من إعطاء صفات إنسانية أو وجدانية لأشياء معنوية أو مادية للتعبير عما يختلج في النفس من اشتعالات وأشواق تتنوع كماهو معروف في نظرية الفيض المشهورة،والسعي للاتصال والتوحد،ومن ثم التحكم بالطبيعة.
أراني حين ألهج باسم «طه»
يضيء الوجد في كل انفعالي
وأشتم الحروف تضوع عطراً
على وهج تضمَّخ في مقالي
وتزكو مهجتي مادام همَّى
محبته، ومنهجه انشغالي
أراني مارنوتُ إليه أحظى
بأسرار المحبة والجمال
فهو في ذكر دائم للحبيب المصطفى والذكر لمحبته وتعلم منهجه هو من أول المقامات في مدارج المحبين والسالكين لابد من التفقه والتعلم حتى يكون الحب عن دراية وعلم، ويكون خلالها التمكن من أسرار المحبة والجمال وهي الثقافة التي جعلت من الشاعر يتوسل إلى الرسول الكريم شأنه شأن كثير من شعراء الصوفية،وفي هذا التوسل نلاحظ الذات الشاعرة المتألمة الباحثة عن الخلاص لهذا العالم،ولن يكون الخلاص إلاَّ من لدن القلب المثالي،الذي أرسل هادياً ورحمة للعالمين، وخلاصاً لها من الشرور والآثام.
أنا يامصطفى عبدٌ محبٌ
قصدتك يارسول بسوء حالي
فهل ياسيدي للغرِّ عفوٌ
وملتحدٌ لدى القلب المثالي
فهو إعلان للحب والتوحد مع الاستعطاف والاعتراف بالذنب وسوء الحال، وهو الإقرار والتوبة والندم مع لفظ المناداة «ياسيدي» مصطلح الصوفية الأثير،وهو إبراز للترقي والصعود في مقامات التعلق والوجد والهيام،وفقد للنفس التي دائماً حالها الحب أن يكون، وأن يكون وردها الذكر واللهج،وأن يكون نقاءها اللوم، إنها الرغبة في التوبة والخلاص،الذي لايكون إلاَّ بالجهاد المرير والانشغال المستمر، فقلب المحب لا يكون إلا للمحبوب، الذي يصبح كل شيء له،وهنا هو رسول الله صاحب الشفاعة.
إلى الرحمن، كيف وأنت نورٌ
وهادٍ للهدى بعد الضلال
فأكرمني بطرفة عين حب
أجسدها اكتمالاً لا اكتمالي
علمتك ـ سيدي ـ للعفو أهلاً
وأجدر بالشفاعة والنوال
ويوم العرض أنت له زعيم
فلا زلفى لبيع أو خلال
وهذا الصوت للاستعطاف وطلب الصفح نجده أيضاً في نص «وماهي إلاَّ المواجيد لك» وإن لاحظنا في بدايته أنه يتحدث عن امرأة ولكنه ديدن الصوفية في ذلك فقد غدت المرأة أو الخمر رموزاً للتعبير عن أفكارهم، وذلك لأن المرأة صارت مثلاً تتيح لديهم الاستذكار والتمثل.
أَرىَ وَهْجَ عفراءَ يفتُّـر لكْ
كأني بها تشغل القلبَ لك
لك الروحُ في منتهى وجدها
كطيفٍ من النور تمتدُّ لك
وهذا مارأيناه في كثير من النبويات، ولانستطيع أن نسميها بمقدمة غزلية، إنما مقدمة محمدية، فلا يتضح لنا إلاَّ أنه أراد الحضرة النورانية المحمدية على نحو مطلع بردة البوصيري القائل:
أمن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة
وومض البرق في الظلماء من إضم
ثم تسير القصيدة كلها في إعلان الحب اللامتناهي للنبي الكريم الذي هو الشغل الشاغل للشاعر
لك الحب ملاذ مستعبدٌ
بوجه الذي لايرى موئلك
دعوت الجميع لحب الهدى
وهاهي إلاَّ المواجيد لك
الباهوت
تتردد في جنبات الديوان مصطلحات كثيرة للصوفية لتؤكد مزيداً من وعي الشاعر بما أضفاه على عالمه الفسيح الرحب لتتضح المواجيد في عالم الفيض والتجلي، ومن المصطلحات «الباهوت» وهو لفظ عرف به قطب من أقطاب الصوفية،وهو المصلح الشيخ أحمد بن علوان، صاحب منطقة يفرس المعروفة، وأول مانجده في هذا الديوان نجده في نص «خندريس الغيم» وهو نص يعطينا صورة عن كيفية الاحتفاء والحضور إلى قبر ابن علوان، وكيف يأتي المريدون من كل بلاد اليمن في يوم متعارف عليه، تحفهم الأشواق إلى القطب،إلى عالم الجمال والصفاء باحثين عن النور
المريدون من كانون جاءوا
يُقرئون الشجون إهلال مبكر
كان وقع الشتاء فيهم فضيعاً
غير أن انسيابهم ماتخثر
وهو يصور الجموع الغفيرة التي جاءت إلى الباهوت، ومدى حبهم وتعلقهم، وهم سائرون رغم المتاعب وبرودة الشتاء، ولكنهم لايحسون بذلك لأنهم في مقام السالك الباحث عن التدرج في مقامات الصوفية التي لابد فيها من الصبر والمجاهدة وهو مايفصح عنه الشاعر في نص «أهزوجة».
في لذة الحبِّ ـ ياباهوت ـ لاكدر
يغتاك زهوي وأفياء ابتساماتي
عانيت .. لكنها حسبانُ عاصفة
مهما استمرت ومادت باشتعالات
وعلى هذا النحو نلاحظ مدى الاحتفاء بالباهوت في هذه النصوص،وهذا مايدل على مدى إعجاب الشاعر بابن علوان ومدى توظيفه له في النصوص التي تدل على ثقافة الشاعر العميقة في عالم التصوف،وإن اعترى هذا العالم في بعض الأوقات الكثير من الغلو والشطحات،ولكن مايهمنا نحن هنا الذات الشاعرة المتصوفة المصاحبة للروح والباحثة عن هموم الواقع، التي رأينا أن الحكيمي لم يذهب عنها بعيداً و هو يجسد آلام وطنه والعالم آلام الأدب والفكر، حتى نراه يلتفت إلى عبدالرحمن طيب بعكر الذي تناسيناه حياً وميتاً، فلا أكرمناه في حياته، ولابعد مماته فهذه كتبه ومخطوطاته تنتظر الاهتمام.