من وحي فلسفة السفالة !!
وأنا أرى وأراقب أحوال الناس شرقيهم وغربيهم في هذه الأيام ، عادت بي الذاكرة للوراء حيث كنت قد قرأت مقالة رائعة ومروعة في نفس الوقت لرجاء النقاش في صحيفة اللواء الأردنية بتاريخ 18/06/1997 ، تحت اسم " فلسفة السفالة" أصاب في هذه المقالة كبد الحقيقة رغم معارضتنا له في بعض جزئياتها ، فانطلقَ يقول :
ليس من النادر أن نلتقي في حياتنا العملية بشخصيات تتصف بالشر والسفالة والخروج على قواعد الأخلاق .. فالدنيا ليست قائمة على الخير وحده ، بل هي مزيج من الخير والشر .. والذين يفهمون الحياة على أنها خير كامل يخطئون ويتعرضون لصدمات كثيرة مؤلمة ، كما أن الذين يفهمونها على أنها شر كامل يخطئون ، لأنهم في هذه الحالة سوف يعيشون في تشاؤم مستمر يؤدي بهم العجز عن مواصلة الحياة ، فالتشاؤم سمّ قاتل ، يجعل الإرادة الإنسانية عاجزة ، ويصيب الإنسان بالجمود والبرود واليأس ، ويُحرَمُ المصاب بهذا التشاؤم من أي قدرة على إقامة علاقات سليمة مع الآخرين .
.
ولذلك كله فإن من الطبيعي أن نلتقي بالشر والأشرار ، ولكن الغريب حقا هو أن يكون للأشرار " فلسفة " يبررون بها تصرفاتهم ويدافعون عنها ويحاولون إقناع الآخرين بأن مايفعلونه هو أمر طبيعي وضروري ، بل أحيانا إنهم يصلون إلى درجة من الصفاقة والبجاحة ، فيرون أن تصرفاتهم هي الصواب القائم على فهم صحيح للحياة ، وهذا هو الموقف الذي يقول عنه القرآن الكريم تأخذهم " العزّة بالإثم " .. وهي صورة رائعة حقا لهؤلاء الذين يرتكبون الآثام والشرور ، ثم يدافعون عنها ، باعتزاز وحماس كأنهم يدافعون عن أعمال مجيدة وإنجازات رائعة .
وما أكثر هؤلاء الذين يدافعون عن سفالتهم ويجعلون منها فلسفة في الحياة . والسفالة في حد ذاتها أمر كريه ومرفوض ، ولكن فلسفة السفالة هي من الأمور التي تسبب الحيرة والدهشة ، لأنها نوع عجيب من الجرأة والوقاحة .
وتابع الكاتب رجاء النقاش في الاستشهاد من أقوال وآراء بعض مشاهير الغرب على استنتاجه هذا وقد وُفّق بربط الآراء تلك بفلسفة السفالة ، وهي نماذج واقعية وحقيقية ومما أورده :
كان نابليون "1769-1821" يعيش في عصر مضطرب شديد القسوة هو أوائل القرن التاسع عشر ، وكان الصراع في المجتمع الفرنسي في ذلك الوقت قائما على القوة وليس على العدل ، وكان المجتمع يحترم النجاح أولا وقبل كل شيء حتى لو كان هذا النجاح مستندا على أسس غير أخلاقية ، وكان نابليون شخصية واقعية حادة الذهن لايخضع في تفكيره وآرائه للأوهام والخيالات ، وفي لحظة من لحظات التأمل المبني على التجربة الواسعة قال لعدد من المحيطين به عبارة غريبة جدا وهي : "..كنت ألاحظ دائما أن الشرفاء لايصلحون لشيء "!!
-عبارة لها خطورتها في توجه هذا القائد وهي المفتاح لفهم المجتمع الذي ينشده نابليون –
يتابع النقّاش إثبات عمل فلسفة السفالة في المجتمع الفرنسي نفسه ، حيث يقول : وبعد أفول نجم نابليون ظهر في المجتمع الفرنسي المضطرب أديب عبقريّ هو بلزاك "1779-1850"فوصف هذا المجتمع في أدبه وصفا فريدا رائعا ، وقدم نماذج حيّة لفلسفة السفالة ، ولهؤلاء الذين يدافعون عنها ببلاغة ومقدرة عالية ، وفي روايته الرائعة "الأب جوريو" نجد صورا أخّاذة لفلسفة السفالة ، ولهؤلاء الأذكياء الأشرار الذين يحاولون تجميل الشرّ ، والذين لايشعرون بالبهجة والسعادة والقوة إلا إذا داسوا على رؤوس الآخرين ..فتقول إحدى شخصيات رواية "الأب جوريو " في التحريض على "البرود" و "إخفاء المشاعر والآراء " و " قتل أي تعاطف مع الآخرين" : إن القلب البشري كالكنز إذا استنفدته في غرفة واحدة وجدت نفسك مفلسا..فيجب أن تغامر بضربات قوية ، وإلا أضعت وقتك في الزحف البطيء دون جدوى .. يجب أن تلوث يديك إذا أردت أن تكون من الأثرياء ، ولكن يجب أن تعرف كيف "تشطفها"بعد ذلك ، وهذه خلاصة الأخلاق في عصرنا ..فقد كانت الحياة دائما على هذا النحو . ولن يستطيع الوعّاظ تغييرها . الإنسان كائن غير كامل . وهو يرى - إلى حدّ ما – منافق ، ولهذا يرى الحمقى - وحدهم - أنه عديم الأخلاق . وأنا لا أتهم الأغنياء لمصلحة الفقراء .. وفي كل مليون من هذه الحيوانات الرفيعة التي نسميها باسم الإنسان ، قد تجد عشرة لصوص يضعون أنفسهم فوق كل شيء .. وفوق القوانين ذاتها . وأنا واحد من هؤلاء .. وإذا كانت لي نصيحة أهديها إليك فهي ألا تقف ثابتا عند آرائك أو أقوالك ، وعندما يسألك أحدهم عن رأي ..قم على الفور ببيعه له .والرجل الذي يفتخر بعدم تغيير رأيه مثله مثل من يأخذ نفسه بالسير في خط مستقيم .. إنه "عبيط" ..
ونقرأ معلما آخر للسفالة على لسان سافل آخر رسمه بلزاك بدقة حيث يقول :
"إنني أرى على جبينك كلمة قرأتها بوضوح هي : الوصول ، الوصول بأي ثمن ..برافو - مرحى - ..أتدري كيف يشقّ الناس سبيلهم في هذه الحياة الدنيا ؟ .. إنهم يشقونه بأحد أمرين : بريق العبقرية أو المهارة في الخسة .. وعليك إذا أردت أن تنجح أن تسقط بين الناس كالقنبلة ، أو أن تتسلل بينهم كوباء . أما الشرف فلا فائدة منه .
هذه هي "فلسفة السفالة " كما يكشفها ويقوم بتشريحها الفنان الروائي العظيم بلزاك .. وهؤلاء المنعوتون بالعظماء كان لهم رواجهم والمقتدون بهم في حياتهم العملية ، والخطورة الكبيرة هي أن تُدّرس آراؤهم في الجامعات التي تُخَّرجُ معظم القادة في العالم وبالأخص في عالمنا المسلم !
ولو تابعنا جولة السفالة مع الأدب العالمي الذي يتربى عليه قادة العالم ، لطلع لنا أديب روسيا الكبير دوستويفسكي "1821-1881 " في روايته الشهيرة " الجريمة والعقاب " يرسم لنا ملامح فلسفة السفالة هذه على لسان شخصية "لوجين " فيقتطف لنا النقّاش بعضا من –درره- :
"قالوا لنا حتى الآن ، عليك أن تحب قريبك . فلنفرض أنني أحببته ، فما الذي يترتب على ذلك ؟ يترتب عليه أن أشطر معطفي شطرين ، فأعطيه أحدهما ، فنصبح كلانا عاريين نصف عريّ ، وفقا لما يقوله المثل الروسي : من طارد أرنبين في وقت واحد لم يستطع أن يلحق بأي واحد منهما . أما العلم فيقول : عليك أن تحب نفسك قبل سائر الناس ..فيبقى معطفك لك كاملا سليما لم يتعرض للتمزيق !
وهكذا تمضي هذه الفلسفة برسم معالم الطريق للكثير من قادة العالم ، ومن أبرزهم هتلر "1889-1945 " الذي نعرفه ، فقد تغذّى على موائد هذه الثقافة السافلة حتى رأيناه يحصد أكثر من خمسين مليونا من البشر على مدى خمس سنوات ، مدة الحرب العالمية الثانية الذي أشعلها .
ويتابع النقاش القول فيأتي على الصهيونية : وكلما وجدنا ظلما عاتيا وجدنا وراءه فلسفة السفالة هذه ، وعندما نقرأ فلاسفة الصهاينة يدهشنا ويفزعنا ما في كتاباتهم من التغني بالدمْ ، والسعادة والنشوة بالقتل ..
ويخلص الكاتب رجاء النقاش إلى أن فلسفة السفالة هي من أخطر الأوبئة التي تواجه المجتمع والحضارة , فالأصل في السفالة أنها رذيلة ينبغي أن يخجل منها صاحبها ، وعندما تصبح السفالة جريئة وصريحة في الدفاع عن نفسها وتبرير وجودها وتجميل وجهها فذلك إنذار بشرور عظيمة تلحق بالحياة والناس .
وأتساءل بدوري عن قادتنا نحن الذين نصبوا أنفسهم علينا أولياء باعتبارنا قاصرين ! فهم لابد أنْ قد استهوتهم هذه السفالة بفلسفتها ، فنرى تطبيقهم العملي عليها في أبناء شعبهم !! ويطبقونها بحذافيرها ولايحيدون عنها قيد أنملة ..
وفي المقابل نجد شهيد كلمة الحق سيد قطب رحمه الله يقول في كتيّبه الرائع" أفراح الروح " في خاطرته الأخيرة ، الخامسة عشرة :
من الصعب علي أن أتصور كيف يمكن أن نصل إلى غاية نبيلة باستخدام وسيلة خسيسة!؟ إن الغاية النبيلة لا تحيا إلا في قلب نبيل: فكيف يمكن لذلك القلب أن يطيق استخدام وسيلة خسيسة؟ بل كيف يهتدي إلى استخدام هذه الوسيلة؟! حين نخوض إلى الشط الممرع بركة من الوحل لابد أن نصل إلى الشط ملوثين.. إن أوحال الطريق ستترك آثارها على أقدامنا وعلى مواضع هذه الأقدام، كذلك الحال حين نستخدم وسيلة خسيسة: إن الدنس سيعلق بأرواحنا، وسيترك آثاره في هذه الأرواح، وفي الغاية التى وصلنا إليها!. إن الوسيلة في حساب الروح جزء من الغاية، ففى عالم الروح لا توجد هذه الفوارق والتقسيمات! الشعور الإنساني وحده إذا أحس غاية نبيلة فلن يطيق استخدام وسيلة خسيسة.. بل لن يهتدي إلى استخدامها بطبيعته! " الغاية تبرر الوسيلة!؟ ": تلك هى حكمة الغرب الكبرى!! لأن الغرب يحيا بذهنه، وفي الذهن يمكن أن توجد التقسيمات والفوارق بين الوسائل والغايات!.