الساعة الثامنة ، انتفض بجسده الضئيل من فراشه في اتجاه الحمام ، باقي ساعة واحدة على ميعاد تواجده في العمل .
- مخصوم منك يومين ....
ترن هذه الجملة طوال تحجله عبر غرف الشقة يجمع في ملابسه ، هذا المدير - ذو الأنف الطويل – دائما سبب مشاكله في الحياة ...
- هو كل يوم كده ؟! " صرخت أخته الصغيرة عندما صدمها فوقعت دميتها على الأرض .
- هلبس إيه انهاردة .... يوه ه مفيش وقت يلا أي حاجة و خلاص " حدث نفسه "
ارتدا الحذاء على الدرج ، تعرقل ، تمالك نفسه ، ثبت الحذاء ، كل يوم ينتظر وسيلة مواصلات تقله إلى مقر عمله ، أصبح الأمر ممل .
- مخصوم منك يومين .....
يرتع - بقدميه القصيرتين – الطريق ليصل إلى الموقف حيث أتوبيس النقل العام... ، صعد ، جلس بجوار النافذة فالطريق طويل و الجو حار .
- هات إيدك يا بني ينوبك ثواب " طلبت عجوز مساعدته في الجلوس بجواره
أمسك بيدها ، جلست ، تمالكت أورقها – التي كتب في منتصف الظاهر منها له مديرية الشئون الاجتماعية – أمسكت بعصاها الهشيم
- كتر خيرك يابني و يديك على قد نيتك
أماء برأسه بابتسامة صفراء ثم ولى وجهه نحو النافذة ..، الشوارع تمتلاء بالمارة ، و الحوانيت تفتح جفونها ، الشمس تسلط أشعتها على الرؤؤس .
- هي الساعة كام دلوقتي يابني ... بالظبط
- تسعة إلا ربع يا أمي !!
- طب خد أظبطلي الساعة دي ربنا يخليك .
تناولها متأففاً ، جذب الزر الدائري ، نظر في ساعته ، حرك عقارب ساعة العجوز حتى التوقيت ، ثبت الزر
- أصل الساعة دي غالية علية قوي...
تبع كلماتها بابتسامة أخرى و هو يناولها الساعة ، استطردت و هي تحاول جذب انتباهه ...
- أصلها هدية من عصام ابني قبل ما يسافر العراق ... ربنا يكرمك يا عصام يابني بحق جاه النبي " و هي ترفع أكفها و وجهها عاليا "
الإبتسامة الصفراء لا تفارق وجهه ، يحاول كظم غيظه من تلك العجوز ..
- قطعت يا أخويا الحرب و سننها ... الواد كان مسافر ياكل عيش أمريكا
حلفت ماهو واخد فلوس تاني من الكفيل اللي كان مشغله هناك .
- أف ... كفي عن الثرثرة أيتها العجوز الرجيم " في قرارة نفسه محاولا قطع الحديث "
- منها لله سعاد مراته فضلت تقوله عاوزة كيت و هاتلي كيت و هو يا حبة عين أمه يقولها حاضر ، و أنا يا بني و الله الدوء! مكنتش برضى أطلبه منه عشان عارفة أنه حبيب قلب أمه مش ناقص,و بكفي نفسي بمعاش المرحوم.
أهو دلوقتي شغال مع أسطى حمدي الميكانيكي اللي على أول الشارع ...! أصل عصام أبني إيده تتلف فحرير .
ولى وجهه نحو النافذة ، بعد أن ظن أنها انتهت من حديثها ، أخرج هاتفه الخلوي يتصل بأحد زملاء العمل يطمئن على وصول المدير البدين ، قاطعته العجوز و هي تدقق النظر في الهاتف ..
- أهو عصام إبني معاه تليفون زي ده ...
- تعالى يا حج أقعد هنا مكاني أنا نازل " قاطعها و هو يفط من مجلسه "
تزاحم بين الركاب حتى وصل إلى السائق ، هندم ملابسه ، نفض بنطاله ، عدل من هيئته أخرج هاتفه الجوال يتصل بأحد زملاء العمل ...
_ نازل فين يا بيه ... " قاطعه السائق "
¬_ المحطة اللي بعد الجاية إن شاء الله
¬¬ - من عنيا ...
عاود الاتصال مرات و مرات لا أحد يجيب ، لا يحدث هذا إلا إذا كان المدير قد وصل
- ربنا يستر ... " مسلما أمره لله "
_ بس باين على حضرتك محامي " سأله السائق "
- لا ... لا " أجابه في غير إهتمام و هو يطأطأ رأسه ناظراً إلى الطريق "
- أصل متأخذنيش حضرتك لابس بدلة في الحر ده إزاي ... هو عدم
المؤخذة طبيعة شغلك كده يعني ؟؟!!
- ايوة يا عم.... خلاص بقا ... " أجابه في إستهجان "
ذلك المدير الكرنبي الجسد هو من يفرض عليهم إرتداء القميص و البنطال ، تمنى كثيراً أن يرتدي التي شرت كمثله من الشباب .
- أيوه أنا هنزل هنا لو سمحت !
- أتفضل يا بيه ..... مع ألف سلامة
نزل يهرول إلى عمله ، مهندما ما أضاعه الأتوبيس من أناقة ، صعد
الدرج ، مسح حذائه ، لامع ، دخل مسرعا إلى زميله ...
- قولي عزرائيل وصل ؟؟؟ " بلهفة "
- لا لسه بس خلاص على وصول " رد عليه "
- الحمد لله " و هو يتنهد "
أسرع إلى مكتبه يرتب أوراقه ، أخذ شهيقا عميقا ، أخرج زفيراً طويلاً ، إتكىء
بظهره للوراء ، رفع سماعة هاتف مكتبه ، طلب قهوته ، سمع صوت بسبسة تأتي من خلف النافذة ، فتاة كل يوم تداعبه كعادتها ، قام رد عليها بحركات يده و غمزات عينه ...
- يعني مش كفاية إنك سايب شغلك ؟ كمان بتعاكس بنات الناس ..؟! إنت عاوز تقفلنا الشركة ؟؟ ... مخصوم منك يومين " صاح المدير بصوته الأجش بعد أن دخل مكتبه فجأة "
خر مصدوماً على مقعده.......
القاهرة أيار مايو 2010