سمير العمري: التشكيل بالصمت والصوت
د . رمضان الحضري.
|
إِنَاؤُكَ مِنْ قَمْحِ الفَجِيعَةِ قَدْ أَجْفَى |
وَمَاؤُكَ مِنْ قرْحِ الوَجِيعَةِ قَدْ جَفَّا |
وَوَجْدُكَ مِنْ رِيحِ الذَّرِيعَةِ جَمْرَةٌ |
وَغَيثُكَ مِنْ رُوحِ الشَّرِيعَةِ قَدْ أَطْفَا |
|
|
هذه مقدمة الربيع في قصيدة الشاعر سمير العمري والمعنونة ب "برزخ الحفظ " وتحاول الدراسة استجلاء النص من جهتين :
الأولى: - التشكيل بالعوامل اللفظية المكونة للصوت في النص الشعري وذلك من خلال تناول النص بنظرية أدبية عربية جديدة هي نظرية العلاقة النصية وتشرف الدراسة بتناول نص شاعرنا العربي الكبير سمير العمري من هذا المنظور التجديدي.
الثانية: - التشكيل بالصمت وهذا ما تحرص الدراسة على تقديمه كتقنية خاصة بنصوص العمري.
ويأتي حرص الدارس على تناول نصوص العمري لأسباب عدة أهمها أن العمري صاحب موقف محدد في المجتمع العربي فهناك مناطق مقدسة في حياته وفي أرضه لا تقبل المناقشة ولا المفاوضة ولا المراهنة ، ومن هذا الاتجاه ينطلق أدبه وفنه وخاصة شعره فالعمري لا تخلو قصيدة من الهم الفلسطيني ولا تمر مناسبة دون إبراز هويته العربية وعرضها أمام غير العرب في أسى الصورة القائمة وظلام يخرج فيه يده فلا يكاد يراها ، وانشغاله بالعرب مجتمعا ونصوصا. كل هذا جعله يقف في منطقة التماس بين الفعل والعمل فإذا قال فعليه أن يفعل لأنه يؤمن أن القول لا يصح بدون فعل والفعل لا يصح بدون نية وفكر والنية والفكر لا تصح بدون اتباع لمنهج صحيح وهذا ما جعله يحرص على إسلامه قبل عروبته وعلى عروبته قبل أرضه وعلى أرضه قبل ذاته.
وقد كان سبقني الأديب المبدع محمد الشحات محمد في تناول هذا النص وهو صاحب فكر مقدم فهو صاحب الجنس الأدبي الجديد القصة الشاعرة وقد رأى في النص رؤى متعددة جميعها هامة وان كانت قد لجأت للنقد القديم في تناول النص وبيان الجماليات فيه ؛ فمثلا أبرز كيف يمكننا عرض الاحتمالات غير المعدودة في تناولنا للعنوان والمفردات والصور جاءت دراسة الشحات للنص محللة القيم المؤكدة لإبداع العمري في خطابه الشعري المتميز.
وتجيء دراستي لتتبني موقفا مغايرا وليس مخالفا حيث سأحول كشف النص بعرضه على النظرية الأدبية العربية الجديدة حيث الكلمة واللفظ عامل نصي وحيث الجملة متوالية نصية وحيث الإيقاع الموجي ينظم شبكة العلاقات الموسيقية داخل النص الشعري لن أبحث على المعنى لأنه سيصبح درسا للشرح يقترب من اللغة اكثر من النقد ولن أبحث في المبنى لأنه سيصبح درسا فى الصرف والنحو أكثر من النقد سأحاول أن يكون النص أدبيا شعريا فالعمل النصي يأتي محددا بارعة زوايا والحدد بأربعة زوايا لا يقبل التأويل كثيرا لأن العامل سيصبح موجها. واللفظ سهم صائب يخرج من بين زواياه الأربعة ليبلغ هدفا معينا ويمكن الرجوع لرباعية الكلمة في الدراسة المنشورة حول القصة الشاعرة في هذا الملتقى فحينما يعنون العمري نصه ببرزخ الحفظ فالبرزخ منطقة فاصلة بين ماض ومستقبل فالكلمة محددة هنا زمنيا كما أنها محددة حدثيا بين أفعال سابقة وأفعال منتظرة ومحددة مكانيا بمواقع الحدث أما ما يمكن ان نتفهمه من هذه المحدودية فهو طلب الانتقال من الحالة الواقعية الراهنة والآنية الى الحالة الممكنة والمطلوبة فالشاعر يقول إننا في منطقة مكانية ولحظة زمنية وفعل حدثي وأرى ان نخرج من الزمان والمكان والحدث وطلبه تغيير الزمان والمكان والحدث إنما هو طلب المستقبل الصحيح أما كلمة الحفظ فهو يقصد بها عدم التهاوي لأكثر من ذلك أو التهافت في مقاصد مغرضة ومفاهيم مشوشة.
من هذا الفهم يأتي نصه متناولا عوامل نصية تحرص على التعالق بينها بشكل كمن يلحم الحديد فالبيت الأول يشير الى الأزمنة الثلاثة زمن كان رغدا والقمح علامة وزمن البرزخ وقد أجفى الاناء وزمن ينتظره وهو المستقبل المأمول والعلاقة بين العوامل النصية فالأساس قمح والماء والغيث علاقة تلازم وعلاقة الماء والقمح علاقة سببية وعلاقة القمح والماء بالوجد علاقات نتيجة ، وعلاقة الماء والقمح والوجد بالشريعة علاقات هدف إذ إن نزول الغيث بالماء على الأرض يخرج خيرها من القمح وغيره فيحدث الشبع والري ، فيطمئن الوجدان ، فيعبد الناس ربهم مطمئنين ، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. فالخوف والجوع يثيران الحفيظة والشبع والأمن يريحان الوجدان ويمنح الله عباده الطعام والأمان لكي يعبدوه سبحانه وتعالى ولله المثل الأعلى وله الثناء الحسن والشكر الجميل. ويستخدم العمري فهمه للشريعة وللدين الاسلامي العظيم .. ليؤصل للمتواليات في النص الشعري فيستخدم ضمائر الخطاب ولفتنا إلى ضمائر الغياب وهو المتكلم فيحتمل النص ثلاثة أزمنة للضمائر كما تحمل ثلاثة أزمنة للحدث وللمكان وهذا ما يجعلني أرى أنه يعي ما يقول ويقول ما يعي إشارة الشاعر للقمح هي من قبيل الإشارة للأساس في العيش الماء والقمح وإشارته للوجد والعبادة هي إشارة للوعي بأن العبادة دون اتصال بالله تصبح عادة لا عبادة وأن العبادة لابد أن تشتمل على منتهى الذل ومنتهى المحبة ولكنها تكون لله فقط لا لغيره أبدا. وقد جاء البيت الثالث لينادي ربما يجد سامعا وهو يرى أن الناس في ظلمة فالساري هو من يسير ليلا والسرى السير ليلا ومنها قول مولانا جل في علاه سبحان الذي أسرى بعبده ليلا والاستدلال بالآية هنا إنما هو استدلال فلسطيني بحت فالعبادة بين المسجد الحرام في مكة والساري تجاه المسجد الأقصى في فلسطين يجعلك ترى أن العمري مهندس للعوامل اللفظية في نصه الشعري.
وحينما استخدم الشاعر بحر الطويل فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن تتك تك - تتك تك تك - تتك تك - تتك تتك في كل شطرة يمكنك أن تشعر بطبيعة الإيقاع الإصراري المتحجر الثائر الذي يحمل الجبال وينازعها البقاء وعند نطقك للعلامات الإيقاعية دون المفردات يمكنك الإحساس بكم الألم والضيق والإصرار على الاستمرار في التوجه مهما كانت المضايقات.
وتأتي المتواليات النصية في البيتين السابقين كعلامة فارقة في كتابة الشعر العربي بتشكيل جديد من خلال استخدام الأقمشة السابقة ويتضح الصوت في التشكيل كما يتضح الصمت أكثر وسوف أتناول في اللقاء القادم المتواليات والصمت في التشكيل إن شاء الله تعالى.