تساؤلات عن حقيقة لامية الأصمعي وقصتها المزعومة
كثيرا ما يتداول العامة قصة تشبه الخرافة عن لامية الأصمعي (صوت صفير البلبل)، هذه القصة التي تستهوي الأطفال وبعض محدودي العلم والثقافة، وتثير إعجابهم، ويبدون اهتماماً كبيراً بها، فيتبارون في حفظها وترديدها ونشرها كمقاطع صوتية مغناة في الوسائط الحديثة، ويستخدمونها كنغمات للهواتف .. الخ.
ما حقيقة قصة هذه القصيدة ؟
هل تستحق القصيدة المحكية كل ما يقال عنها؟
تتلخص القصة في أن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور كان يحفظ كل ما ينشد في مجلسه من القصائد بعد أن يسمعها مرةً واحدةً ولو كانت مؤلفةً من ألف بيت، وله غلام يحفظ بعد أن يسمعها مرتين ، وجارية تحفظ بعد سماعها ثلاث مرات . وعلى هذا الأساس فقد كان المنصور يحرم الشعراء من مكافآته بدعوى أن ما ينشدونه في حضرته ليس من تأليفهم ولا هو بجديد عليه بل هو قديم وقد سمعه قبل ذلك وحفظه ، ثم ينشد المنصور ما سمعه مرة أخرى أمام الشاعر ليؤكد صحة ادعائه وليدحض ملكية الشاعر لقصيدته ، حتى جاءته القصيدة (المعجزة)!!! التي يحفظها أطفال اليوم ويعجز عنها فطاحلة العصر الذهبي للشعر!!!!
الأمر الأشد غرابة أن القصيدة منسوبة للأصمعي!!
هل حقاً عجز الخليفة أبو جعفر المنصور عن حفظها؟ وهل من يحفظ كل ما يُنشد في حضرته من القصائد، ولو كانت من ألف بيت، يعجز عن مثل هذه النظم الركيك؟! وهل يستحق صاحبه أن يقبض ما يقابل وزنه ذهبا ؟
هل القصة حقيقة ؟ أم أنها من روايات عالم الجن؟ وما هو مصدرها؟ ألم تذكرها كتب التاريخ والأدب وغيرها؟ هل من نسخة أصلية للقصيدة لعلها تقنعنا بما نُسج حولها ؟!!!
هل هذه القصيدة الضعيفة هي صاحبة البطولة في مسلسل (كيني ميني) الذي يحكى؟!
أم أنها وصلت إلينا محرفة ؟ ولكن كيف يسمح التاريخ بتحريف قصيدة كان لها هذا الشأن كما تصف القصة؟!!!
هل أطفال اليوم أكثر ذكاء من خليفة كان يحفظ القصيدة بعد سماعها مرة واحدة؟!! أم أن الذنب ذنب الوسائط الحديثة التي أوصلت لنا نسخة مشوهة من القصيدة؟ وهل هناك صيغة أخرى للقصيدة أكثر صعوبةً وأفصح لغةً وأدق تعبيراً وأرقى بناءً وأسمى غايةً وأكثر بلاغةً ومتانةً والتزاماً بقواعد النحو والصرف -وربما الإملاء - من الصيغة المتداولة حالياً؟؟
إذا كان أطفال اليوم أكثر ذكاء من أبي جعفر المنصور فلماذا يعجزون عن حفظ بعض الأبيات والنصوص في المقررات الدراسية؟؟!!!!
وهل القصيدة بشكلها المحكي والمقروء والمسموع حالياً والركيك معنى ومبنى جملة وتفصيلا هي من تأليف الأصمعي وهو من أرباب اللغة ؟!
الغريب في الأمر أن عدوى الاعتقاد بصحة القصة قد أصابت طائفة كبيرة من المثقفين وأنصاف المثقفين و بعض المهتمين بشئون الأدب والفكر واللغة.
أسئلة كثيرة راودتني حولها ، فبحثت كثيراً وسألت كثيراً لعلي أجد من يدلني على مصادرها ولم أجد إلا روايات متشابهة تتفق مع ما يتداوله الأطفال ، ثم بحثت في الشبكة العنكبوتية ولم أجدها مختلفة كثيراً سوى في بعض الأمور الإملائية التي لا تخلوا منها منتديات الإنترنت . وعلى صعيد بحثي هذا وجدت مقالة لكاتب اسمه د/ عبدالله سليم الرشيد ؛ هذه المقالة شدتني كثيراً لاختلافها جذرياً عن كل ما يُحكى عن القصيدة وقصتها الهائفة ، ولعل الكاتب بدا فيها أشد مني خشونة وتهكماً وسخرية، وأعتقد جازماً أنه محقٌ في انفعاله. يقول :
(إنّ هذه القصة السقيمة والنظم الركيك كذب في كذب ، وهي من صنيع قاصّ جاهل بالتاريخ والأدب ، لم يجد ما يملأ به فراغه سوى هذا الافتعال الواهن ).
ولعل أهم ما ذكره الكاتب عبد الله الرشيد هو ما يتعلق بمصدر القصة ، حيث يقول:
(إن القصة المذكورة لم ترد في مصدر موثوق ، ولم أجدها بعد بحث طويل إلا في كتابين ، الأول : إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس ، لمحمد دياب الإتليدي ( ت بعد 1100هـ ) وهو رجل مجهول لم يزد من ترجموا له على ذكر وفاته وأنه من القصّاص ، وليس له سوى هذا الكتاب .
والكتاب الآخر : مجاني الأدب من حدائق العرب ، للويس شيخو ( ت 1346هـ ) ، وهو رجل متّهم ظنين ، ويكفي أنه بنى أكثر كتبه على أساس فاسد - والتعبير لعمر فرّوخ ( ت 1408هـ ) - وكانت عنده نزعة عنصرية مذهبية ، جعلته ينقّب وينقّر ويجهد نفسه ، ليثبت أن شاعراً من الجاهليّين كان نصرانياً ( راجع : تاريخ الأدب العربي 1/23)
ولعل التساؤلات السابقة، إلى جانب ما توفر لدينا من معلومات حول الموضوع ، تقودنا إلى حقيقة مفادها أن القصة وهمية، وأن ما يحكى عنها هو عين التجني على الأدب العربي واللغة العربية وعلى الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور ، وأن نسبة القصيدة إلى الأصمعي هو عين الإجحاف بحق رب من أرباب اللغة وهو منزه عن ارتكاب مثل هذا النظم الركيك الذي لم يلتزم بأبسط قواعد اللغة.
وختاماً فإن القصة المنسوجة حول القصيدة ، بل والقصيدة ذاتها ، تبقى مادة منضوية تحت باب أدب الأطفال.