بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المرادُ بجوامِعِ الكَلِم: الاختِصارُ المفيدُ الناطقُ بالحكمة والجامعُ لأطرافِ الموضوعِ.
كما قال ابنُ الأثير - رحمه الله -:
"الْمُرادُ بذلك أنه أُوتِيَ الكَلِمَ الجوامِعَ للمعاني".
وقد استَحسنَ الفصحاءُ جوامِعَ الكَلِم، وقرَّروا أنَّ البلاغة إيجاز. كما قال أبو هلال العسكري - رحمه الله - في كتاب (الصناعتين): "
قيل لبعضهم: لم لا تُطيلُ الشِّعر؟ فقال:
حَسبُك من القِلادة ما أحاطَ بالعُنق!
وقيل ذلك لآخر، فقال: لستُ أبيعُه مُذارَعةً!
وقيل للفرزدق: ما صيَّرَك إلى القصائدِالقِصارِ بعد الطِّوال؟
فقال: لأني رأيتُها في الصدورِ أوقعَ، وفي المحافل أجْوَل.
وقالت بنتُ الحطيئة لأبيها: ما بالُ قصارِك أكثرَ من طِوالِك؟
فقال: لأنها في الآذان أولج، وبالأفواه أعلق".
وقال الأبشيهي - رحمه الله - في (المستطرف من كل فن مستظرف):
"قال البحتري: خيرُ الكلامِ ما قلَّ وجلَّ ودلَّ ولم يُمَلَّ".
وقال ابنُ أبي الأصبع في تحرير التحبير):
"ومما جاء من ذلك في السُّنة قولُه- صلى الله عليه وسلم -:
(الحلالُ بَيِّنٌ والحرامُ بَيِّن)، وقوله - عليه السلام -:
(لاضررَ ولا ضِرار)...ومن أمثلةِ هذا البابِ الشعرية قول زُهير:
وهل يُنبِتُ الخطِّيَّ إلا وَشِيجُه * * * وتُغرَسُ إلا في مَنابتِها النخلُ!
وكقول النابغة:
ولستَ بِمُستَبقٍ أخاً لا تلُمُّهُ * * * على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المهذَّبُ!
وكقول بشار:
فعِشْ واحِداً أو صِلْ أخاك فإنه * * * مُقارفُ ذنبٍ مرةً ومُجانِبُهْ!
إذا أنت لم تشرَبْ مِراراً على القذَى * * * ظَمئتَ وأيُّ الناسِ تصفو مَشارِبُهْ"!
وقد روى البخاري - رحمه الله - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -
قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
(بُعِثتُ بجوامعِ الكَلِم، ونُصِرتُ بالرُّعب، وبينا أنا نائمٌ أُتِيتُ بمفاتيحِ خزائنِ الأرض؛ فوُضِعَت في يدي)، وفي روايةِ مُسلمٍ - رحمه الله -: (نُصِرتُ بالرُّعْبِ على العدُو، وأُوتِيتُ جوامعَ الكَلِم،
وبينما أنا نائمٌ أُتِيتُ بمفاتيحِ خزائنِ الأرض؛ فوُضِعَ في يدي).
وفي روايةٍ جامعةٍ لمسلمٍ - رحمه الله - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (فُضِّلتُ على الأنبياء بسِتٍّ: أُعْطِيتُ جوامِعَ الكَلِم، ونُصِرتُبالرُّعب، وأُحِلَّت لي الغنائم، وجُعِلَت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأُرْسِلتُ إلى الخلقِ كافَّة، وخُتِم بي النبيُّون).
وقد مثَّل البخاري - رحمه الله - على جوامِعِ الكَلِم بما رواه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -
قال: (بَعثَنِي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاذاً إلى اليمن
فقال: ادعُوا الناسَ وبشِّراولا تُنفِّرا ويَسِّرا ولا تُعسِّرا، قال: فقلتُ يا رسولَ الله أفْتِنا في شَرابَيْن كنا نصنَعُهما باليمن: البِتعُ وهو من العسلِ يُنبَذ حتى يشتد، والمزر وهو من الذرة والشعير يُنبَذُ حتى يشتد. قال: وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُعطِيَ جوامِعَ الكَلِم بخواتمه، فقال: أنْهَى عن كلِّ مُسْكِر أسْكَرَ عن الصلاة).
فله - صلى الله عليه وسلم - أكرمُ القولِ وأحسَنُه، كما قال شوقي - رحمه الله -:
إِنَّ الشَمائِلَ إِن رَقَّت يَكادُ بِها * * * يُغرىالجَمادُ وَيُغرى كُلُّ ذي نَسَمِ
يا أَفصَحَ الناطِقينَ الضادَ قاطِبَةً * * * حَديثُكَ الشَهدُ عِندَ الذائِقِ الفَهِمِ
حَلَّيتَ مِن عَطَلٍ جِيدَالبَيانِ بِهِ * * * فِي كُلِّ مُنتَثِرٍ في حُسنِ مُنتَظِمِ
بِكُلِّ قَولٍ كَريمٍ أَنتَ قائِلُهُ * * * تُحيِي القُلوبَ وَتُحيِي مَيِّتَ الْهِمَمِ
وقد كان كلامُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - محفوفاًبالوضوحِ والإعادة التي تساعد على الإبانة،
كما ترجَمَ البخاري - رحمه الله - في كتاب (العلم):
[باب (من أعاد الحديثَ ثلاثاً لِيُفهَم عنه؛ فقال: (ألا وقولَ الزُّور؛ فما زال يُكرِّرُها).
وقال ابنُ عمر: قال النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (هل بلَّغتُ ثلاثاً؟)
وروى عن أنس - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
(أنه كان إذا سلَّمَ سَلَّم ثلاثاً، وإذا تكلَّمَ بكلمةٍ أعادَهاثلاثاً).
وفي رواية:
(أنه كان إذا تكلَّمَ بكلمةٍ أعادَها ثلاثاً حتى تُفهَمَ عنه، وإذا أتى على قومٍ فسَلَّمَ عليهم سَلَّمَ عليهم ثلاثاً).
وكلامُهُ فَصلٌ مُبِينٌ نَثْرُهُ * * * يسمُو عُقودَ الدُرِّ والْمَرْجانِ!
حُلوُ الكَلامِ إِذا تَكلَّم ناطِقاً * * * فَالحَقُّ مافاهَت بِهِ الشّفَتانِ
ما كانَ يسردُ بَل يعدُّ كَلامهُ * * * عَدّاً لِيَعقلهُ ذَوو الأَذهانِ!
ورَحِمَ الله الصاحبَ بن عباد ما أحسنَ قولَه
: "إذا تكرَّرَ الكلامُ على السمع؛ تقرَّر في القلب".
فصلَّى الله على من أُوتِيَ جوامعَ الكلم وروائعَ الكَلِم، قال ابنُ رجب - رحمه الله -:
"خصَّهُ بِجَوامعِ الكَلِم؛ فربما جَمعَ أشتاتَ الْحِكَم والعُلومِ في كلمةٍ أو شَطرِكلمةٍ... فإنَّ الله - سبحانه وتعالى - بعثَ محمداً - صلى الله عليه وسلم- بجوامعِ الكَلِم وخَصَّه ببدائعِ الْحِكَم كما في الصحيحَين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم –
قال: (بُعِثْتُ بِجَوامِعِ الكَلِم)".
وقد فسَّرَ البخاري - رحمه الله - جوامِعَ الكَلِم بقوله:
"بلغَنِي أنَّ جوامِعَ الكَلِم أنَّ الله يجمعُ الأمورَ الكثيرة التي كانت تُكتَبُ في الكُتب قبلَه في الأمرِ الواحدِ والأمرَين أو نحو ذلك". وقال الآثاري - رحمه الله -:
قَلَّت مَدائِحُ خَلقِ اللَهِ قاطِبَةً * * * إِلا مَدائِحَهُ جَلَّت من العِظَمِ!
كَلامُهُ جاِمِعُ الخَيراتِ كَيفَ وَقَد * * * أُوتِي جَوامعَ فَضلِ اللَهِ في الكِلمِ!
يُصَرِّفُ القَولَ بِالمَعروفِ مِنهُ كَما * * * يُؤَلِّفُ اللَفظَ وَالمَعنى مِنَ الحِكَمِ
لَفظُ الكِتابِ وَلَفظُ الشارِع اِئتَلَفا * * * كَالشَمسِ وَالبَدرِ في صُبحٍ وَفي ظُلَم
يَدعوإِلى الْخَيرِ بِالتكرارِ أُمَّتَهُ * * * وَيَأمُرُ الأهلَ بِالمَعروفِوَالْهِمَمِ
الجودُ وَالْحُسنُ وَالخَيراتُ قَد جُمِعَت * * * فيهِ مَع اللُطفِ وَالإحسانِ وَالْهِمَمِ
وقَد تَقسَّمَ فيهِ الفَضلُ أَجْمَعُهُ * * * ذاتاً وَمَعنًى وَأفعالاً مَع الكَلِمِ!
فجَوامِعُ الكَلِمِ لا تُقتَصَرُعلى اختِصارِ المعاني الكثيرةِ والفوائدِ الغزيرةِ في الألفاظِ القليلة،
بل تشمَلُ كذلك محاسِنَ الافتِتاحِ والختام، كما قال ابنُ رجب - رحمه الله -:
"خرَّجَ الإمامُ أحمد - رحمه الله - من حديثِ عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال:
خرجَ علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوما كالمودِّعِ
فقال: أنا محمد النبِيُّ الأُمِّي،قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ ولا نبِيَّ بعدي: أُوتِيتُ فواتِحَ الكَلِم وخواتِمَه وجوامِعَه)،
وذكر الحديث،
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.