مبحث أعجبني من كتاب "من هدي الإسلام.. فتاوى معاصرة" الجزء الثاني، ص ص 691-703، ط المكتب الإسلامي، ط1421-2000***يجب أن أعلنها صريحة مدوية: إن الإسلام الحق كما شرعه الله لا يمكن أن يكون إلا سياسيا، وإذا جردت الإسلام من السياسة فقد جعلته دينا آخر يمكن أن يكون بوذية أو نصرانية أو غير ذلك، أما أن يكون هو الإسلام فلا. وذلك لسببين رئيسين: الأول: أن للإسلام موقفا واضحا، وحكما صريحا في كثير من الأمور التي تعتبر من صلب السياسة؛ فالإسلام ليس عقيدة لاهوتية، أو شعائر تعبدية فحسب، أعني أنه ليس مجرد علاقة بين الإنسان وربه، ولا صلة له بتنظيم الحياة، وتوجيه المجتمع والدولة. كلا، إنه عقيدة وعبادة، وخلق وشريعة متكاملة، وبعبارة أخرى: هو منهاج كامل للحياة بما وضع من مبادئ، وما أصل من قواعد، وما سن من تشريعات، وما بين من توجيهات تتصل بحياة الفرد، وشؤون الأسرة، وأوضاع المجتمع، وأسس الدولة، وعلاقات العالم. ومن قرأ القرآن والسنة المطهرة، وكتب الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه - وجد هذا واضحا كل الوضوح. حتى قسم العبادات من الفقه ليس بعيدا عن السياسة؛ فالمسلمون مجمعون على أن ترك الصلاة، ومنع الزكاة، والمجاهرة بالفطر في رمضان، وإهمال فريضة الحج - مما يوجب العقوبة، والتعزير، وقد يقتضي القتال إذا تظاهرت عليه فئة ذات شوكة، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه مع مانعي الزكاة. بل قالوا: لو ترك أهل بلدة ما بعض السنن التي هي من شعائر الإسلام مثل الأذان أو ختان الذكور، أو صلاة العيدين - وجب أن يدعوا إلى ذلك وتقام عليهم الحجة، فإن أصروا وأبوا وجب أن يقاتلوا حتى يعودوا إلى الجماعة التي شذوا عنها. إن الإسلام له قواعده وأحكامه وتوجيهاته في سياسة التعليم، وسياسة الإعلام وسياسة التشريع، وسياسة الحكم، وسياسة المال، وسياسة السلم، وسياسة الحرب، وكل ما يؤثر في الحياة، ولا يقبل أن يكون صفرا على الشمال، أو يكون خادما لفلسفات أو أيديولوجيات أخرى، بل يأبى إلا أن يكون هو السيد والقائد والمتبوع والمخدوم. بل هو لا يقبل أن تقسم الحياة بينه وبين سيد آخر، يقاسمه التوجيه أو التشريع، ولا يرضى المقولة التي تنسب إلى المسيح عليه السلام: "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله"؛ فإن فلسفته تقوم على أن قيصر وما لقيصر لله الواحد الأحد، الذي له من في السماوات ومن في الأرض، وما في السماوات وما في الأرض ملكا وملكا. وفكرة التوحيد في الإسلام تقوم على أن المسلم لا يبغي غير الله ربا، ولا يتخذ غير الله وليا، ولا يبتغي غير الله حكما، كما بينت ذلك سورة التوحيد الكبرى المعروفة باسم "سورة الأنعام". وعقيدة التوحيد في حقيقتها ما هي إلا ثورة لتحقيق الحرية والمساواة والأخوة للبشر، حتى لا يتخذ بعض الناس بعضا أربابا من دون الله، وتبطل عبودية الإنسان للإنسان، ولذا كان الرسول الكريم صلوات الله عليه يختم رسائله إلى ملوك أهل الكتاب بهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران "قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [آل عمران]. وهذا سر وقوف المشركين وكبراء مكة في وجه الدعوة الإسلامية، من أول يوم، بمجرد رفع راية "لا إله إلا الله"، فقد كانوا يدركون ماذا وراءها، وماذا تحمل من معاني التغيير للحياة الاجتماعية والسياسية، بجانب التغيير الديني المعلوم بلا ريب. السبب الثاني: إن شخصية المسلم كما كونها الإسلام وصنعتها عقيدته وشريعته وعبادته وتربيته لا يمكن إلا أن تكون سياسية، إلا إذا ساء فهمها للإسلام، أو ساء تطبيقها له؛ فالإسلام يضع في عنق كل مسلم فريضة اسمها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد يعبر عنها بعنوان النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وهي التي صح في الحديث اعتبارها الدين كله، وقد يعبر عنها بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهما من الشروط الأساسية للنجاة من خسر الدنيا والآخرة، كما وضحت ذلك سورة العصر. ويحرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلم على مقاومة الفساد في الداخل ويعتبره أفضل من مقاومة الغزو من الخارج، فيقول حين سئل عن أفضل الجهاد: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، وذلك لأن فساد الداخل هو الذي يمهد السبيل لعدوان الخارج. ويعتبر الشهادة هنا من أعلى أنواع الشهادة في سبيل الله "سيد الشهداء حمزة، ثم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله". ويغرس في نفس المسلم رفض الظلم، والتمرد على الظالمين حتى إنه ليقول في دعاء القنوت المروي عن ابن مسعود، وهو المعمول به في المذهب الحنفي وغيره "نشكرك اللهم ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك". ويرغب في القتال لإنقاذ المضطهدين والمستضعفين في الأرض بأبلغ عبارات الحث والتحريض، فيقول: "وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا" [النساء]. ويصب جام غضبه، وشديد إنكاره على الذين يقبلون الضيم، ويرضون بالإقامة في أرض يهانون فيها ويظلمون، ولديهم القدرة على الهجرة منها والفرار إلى أرض سواها، فيقول: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا" [النساء]. حتى هؤلاء العجزة والضعفاء قال القرآن في شأنهم: "عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ"، فجعل ذلك في مظنة الرجاء من الله تعالى؛ زجرا عن الرضا بالذل والظلم ما وجد المسلم إلى رفضه سبيلا. وحديث القرآن المتكرر عن المتجبرين في الأرض من أمثال فرعون وهامان وقارون وأعوانهم وجنودهم - حديث يملأ قلب المسلم بالنقمة عليهم، والإنكار لسيرتهم، والبغض لطغيانهم، والانتصار - فكريا وشعوريا - لضحاياهم من المظلومين والمستضعفين. وحديث القرآن والسنة عن السكوت على المنكر، والوقوف موقف السلب من مقترفيه حكاما أو محكومين - حديث يزلزل كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. يقول القرآن: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" [المائدة]. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري.