صدور الدّيوان الشّعريّ الأوّل للشّاعر رفعت زيتون
عندما تُضَمّ سدى الفكر الوطنيّ، بقوّته ورزانته، وخيوطه القصبيّة، إلى لحمة العاطفة بشفافيّتها وصدقها، فإنّ العباءة المخيطة تجذب أصحاب الذّوق الشّعريّ الرّفيع لاقتنائها؛ لتكون الدّفء للعاطفة وقت لسعات القرّ، والبرد للفكر وقت اصطلائه بنيران وحمّى الغضب على ما يصيب الوطن!
وهذا ما أحسست به بعد قراءتي لديوان الأخ الشّاعر رفعت زيتون، الصّادر عن دار الجندي للنّشر/القدس، بصفحاته المئة واثنتين وأربعين، وبعنوان:
" حروف مقدسيّة... على السّور الجريح"، والمكوّن من جزئين: وطنيّات وإنسانيّات.
هي حروف نثّت مشاعر صادقة مكوّنة لوحة جميلة، ذات ألوان وأطياف مميّزة، بُدئت بقصيدة مهداة إلى مدينة القدس العظيمة، قدس الحضارة والدّين والتأريخ والجمال... والتي حظيت في الدّيوان بمجموعة من القصائد الرّائعة... وقصائد أخرى فاضت بمعاناة السّجين والعامل والشّعب الذي شرّدته النّكبة، وغرّبته النّكسة، فأدمعت العين، وأدمت القلب...
وحوى الجزء الثّاني وجدانيّات تعبّر عن خلجات النّفس العاطفيّة الرّقيقة... عن الوصال والجفاء... عن هموم الحياة ومن يحملها. واختتم الدّيوان بجداريّة: "رحلة... في السّراب" التي تعبق حروفها بزخم فلسفة الحياة والموت، وتفاهة الحياة الدّنيويّة...
مبارك هذا الإصدار الذي هو باكورة الإنتاج، وأتمنّى أن يكون فاتحة خير لدواوين ونتاجات أخرى... والعقبى لكلّ الإخوة الأفاضل، والأخوات الفضليات الذين يطمحون بإصدار ديوان أو غيره...
باقة من التّبريكات والدّعوات لك بالتّوفيق أستاذنا وأخانا الشّاعر رفعت زيتون... وعلى درب النّجاح دائما...
وهذا ما جاء في الإهداء والتّقديم:
حرُوفٌ
مَقْدِسِيَّة...
عَلى السُّورِ الجَريح
إهْدَاء
إِلى رُوح وَالِدي الطَّاهِرَةِ، وَإِلى وَالِدَتِي، وَإِخْوَانِي وَأَخَوَاتِي، وَإِلى زَوْجتِي وَأبْنائي وبَناتِي، وَإلى جَميعِ الأَهْلِ والأَصْدِقاءِ، وَكُلِّ مَنْ لَهُم حَقٌّ عَلَيّ، وَكُلِّ مَنْ عَلَّمَنِي حَرْفًا، وإِلى أعْضَاءِ وَرُوّادِ نَدْوَةِ اليَوْمِ السَّــابِع فِي القُدْسِ الشَّريفِ، وإلى كلّ أُدَباءِ وَشُعَرَاءِ وَشَاعِراتِ مُلْتَقى الوَاحَةِ الأدَبِيَّةِ الذين تَعَلَّمْتُ مِنْهُم الكَثير، وَإِلى عُشّاقِ الضّادِ في كُلِّ مَكَان فِي عَالمِنا، أُهْدِي هذِهِ الكَلِماتِ المَقْدِسِيَّةِ ... مَعَ حُبِّي وَتَقْدِيري
رِفْعَتْ يِحْيَى زَيْتُون
القُدْس
حروف مقدسيّة على السور الجريح
تقديم بقلم : إبراهيم جوهر – القدس
هذه باقة من الورود الشعرية التي خطها قلم شاعر مقدسي يعشق القدس لأنها القدس ولأنها المدينة الجميلة بكل ما تعنيه ، من قيم وجمال وتاريخ وحضارة وبهاء . ولأنها رمز السلام والعدل والجمال الروحي يغني لها الشاعر رفعت زيتون ويرفض أن تكون شيئا آخر غير الذي يجب أن تكون عليه وأن تكونه ؛ القدس ؛ مدينة الروح.
في باقته الشعرية هذه (حروف مقدسية على السور الجريح ) يغني الشاعر المهندس رفعت زيتون للقدس ، والحياة ، والقلب ، والروح . يغني للإنسان المقهور وهو يتوق لحريته المشتهاة ، وللعامل الكادح المظلوم وهو يجري خلف رغيف خبزه المغموس بدم التعب والمعاناة.
وقد وفّر الشاعر لقصائده هنا موسيقى متدفقة رقراقة هادئة أحيانا حيث يجب الهدوء والتأمل ، حانية تطرب وتشجي وتثير الأشجان والمواجع لتنتزع ال (آه ...) إعجابا وتأسيا وحنينا . وقد تعلو موسيقاه لتستفز وتحرّض وهي تتحدى ، أو تواجه.
ولغته في هذه القصائد تتقدم بخفر عذريّ ساحر في ألفتها وبساطتها وبعدها عن الإغراق في التعقيد والترميز والغموض لأنها جاءت قريبة من لغة من يخاطبهم لأنه يكتب لهم ويهمه أن يفهموه ليطربوا ويفعلوا ، ولتصلهم الرسالة بوضوح الشعر ولغته وموسيقاه بعيدا عن تحدي وعيهم والتلاعب بالمفردات ذات الإيقاع الخالي من الانفعال والشعور.
إنه يتوجه مع قارئه ، يأخذ بيده الى نهاية نهره المتدفق شعرا وجمالا وأملا ...إلى المصب المأمول حيث البهاء والنقاء والأحلام المحققة في باقته هذه (حروف مقدسية على السور الجريح) يلوّن الشاعر المهندس رفعت زيتون أزهاره ؛ فمن الحنون البلدي الربيعي الشفاف الجميل ، إلى الجوري ذي الأشواك التي تقف بكبرياء تحرس خمرة التاج ، إلى الزنبق ، إلى الاقحوان ذي الأوراق الطفولية اللاهية وهي توفّر متعة للصغار في عالم البراءة والتوقعات ...إلى أن يصل بقارئه إلى جداريته الطويلة وهو يحاور فيها معنى الحياة ويقدّم رؤيته الخاصة مجاريا بذا تجربة الشعراء الصوفيين وشعر الزهد العربي.
لهذا كله نجده وقد طعّم لغته بلغة قرآنية رزينة ، وبلغة العصر العباسي الذهبي ، وراح يتناص مع قصة سيدنا يوسف في السجن ، ويأخذ من صاحبيه مثلا يستحضره إلى أرض القصيدة وواجهة الذاكرة وعتبة الواقع.
إنه يهمس حينا همسا ناعما قريبا من النفس فتحس بالكلمات وقد بدأت أحرفها توشوش وتوسوس وسوسة دافئة ... حين يتغزل بالوطن والمرأة على حد سواء.
وحين يخاطب قارئه ليستحثه على الإقدام والتبصّر أو النظر في مرآة واقعه المشروخة علّها تعيد للصورة نقاءها واكتمالها ، وللروح حياتها ودورها فإن لغته تعلو وتقسو فتكثر فيها حروف الجد والتقطيب
ومن واقع مهنته الهندسية جاءت هندسة القصيدة لافتة مقصودة وقد رسمت بعناية واقتدار . لذا كان البناء الهندسي في قصيدة الشاعر المهندس رفعت زيتون شكلا ومضمونا مما وفّر لها كينونتها الخاصة التي تستمد روحها من موسيقى منتقاة بعناية لتناسب غرضها في إيقاع مؤثّر ، وفي أحرف الكلمات والصور الفنية وهي تتضافر في رسم عالمه الفني الأليف ذي الخصوصية (الزيتونية ) وهو يرفعها بيارق على جروح السور الصامد في قدس الأقصى والقيامة.
رفعت زيتون لم يتعجّل النشر ، بل انتظر حتى استوى قصيده واستقام فنه ، وأبى الإقدام على تجربة النشر الورقي قبل أن يضمن تقديم ما يسهم به في مسيرة الشعر الفلسطيني ، ويضعه في مرتبة متقدمة من الإبداع
هذه قصائد شعرية ؛ واثقة من نفسها ، وقارئها . تعيد الثقة بالشعر الذي تربت ذائقة القارئ عليه
إنها تسهم في بناء مدماك متميز في هيكل شعرنا الفلسطيني والعربي.
إبراهيم جوهر – القدس ، 22 أيلول 2011 م