صَفْحَةٌ من طُفُولَتي ( 5 )
بقلم / ربيع بن المدني السّملالي
(( لاَزَالتْ ذَاكِرَتِي تحتَفِظُ بالكَثير الكثير منَ المواقف التي كنتُ أمرّ بهَا وأنا أسيرُ في دروبِ الحياة ، وأمضي في أزقّة الأيّام ..، فأتبسّم من بعضها وأكاد أبكي من البعض الآخر...))
أحاولُ عَبثاً أنْ أستحضرَ وجهَها الصّبوحَ ، وملامَحَها البريئةَ ، ولكن للأسف تَبُوءُ مُحاولتي بالفشل ، لقد اختفى من ذاكِرَتي ذاكَ الوجهُ المشرقُ الكريمُ .. شأنه في ذلكَ شأن كثير من الوجوه التي صادفتُ في طريقي وأنا أسيرُ في دروبِ هذه الحياة ...إلا أنّني لازلتُ أذكر جيّدا أخلاقَها الدّمثةَ ، وتعاملَها الطّيبَ ، ومنطقَها الحلوَ ، وصبرَها الجميلَ على شغبنا وصُراخِنا وضجيجِنا.. كما أذكرُ جيّداً أناملَها العاجيةَ الأنيقةَ البيضاءَ وهي تُمسكُ بيدي لتعلّمني كيف أكتُبُ حرف ( الألف ) و ( الباء ) و ( التّاء ) ..
إنّها معلّمتي الغالية في القسم الأول الابتدائي ، التي تركت في نفسي منذ الصّغر أثراً إيجابياً ، كانَ له دور فعّال في دنياي ..
شابة في العشرينيات تمتاز بنشاطها وإخلاصها في مهمّة تدريسنا ، والحرص على ذلك ، وكأننا أولادُها ، لم تكن فظّةً ولا غليظةً ، ولم أرَها غَضْبَى قطّ فيما أذكر ، كانت ابتسامةُ الرّضى والأمان والاطمئنان باديةً على مُحيّاها صباحَ مساء ...
دخلتْ الفصلَ ذاتَ صباحٍ فوجدتْ صبيّةً تجلسُ في المقعد الأوّل قد غرقت في بولِها ، وفرائصُها ترتعدُ فرَقاً وهلعاً لأنّها تعلمُ علماً فِطرياًّ أنّها جاءت شيئاً نُكْرا ... فوالله ما نَهَرَتْهَا ولا شَتَمَتْها ولا ضربتها ولا قالت لها لما فعلتِ كذا ، بل هدّأت من رُوعها ، وربتت على كتفها ، وقالتْ لها بحنانِ امرأةٍ واعية ، والبسمةُ تعلو شفتيها : ابنتي ، إنّ هذا المكان لا يصلح فيه مثل هذه الأشياء ، إذا أردتِ أن تذهبي للمرحاض فأخبريني وقتما شئتِ . أو كلام هذا معناه ...
وكان يجلسُ في المقاعد الأخيرة طفلٌ كسول مشاغب أبله ، رؤيته تبعثُ على القَرَف والاشمئزاز ، كانَ قبيحَ الوجه ، أشعثَ الشّعر ، ذا أنف يسيل مُخاطاً على الدّوام ، وعين مرمصة تحيطُها هالة بنفسجية ، وثغر ملعوب.. وذا أسمال بالية متّسخةٍ تفوح منها روائح نَتِنَة ، بسببها لا يجلسُ بقربه أحد ، ومعلّمتنا الطّيبة لا يزيدها شغبُه وقبحُه ونزقُه إلا حِلماً وصفحاً وعفواً ، وكانت تدعو له دائماً بقولها : ( الله يهديك أولدي) ..
ولا أعرفُ الآنَ شيئاً عن أخبارها ، لأنّني انتقلتُ من المدينة التي توجدُ فيها المدْرَسة مباشرةً بعد وفاة أبي ..
وَلَو كانَ النِساءُ كَمَن فَقَدْنا .... لَفُضِّلَتِ النِساءُ عَلى الرِجالِ
وَما التَأنيثُ لاِسمِ الشَمسِ عَيبٌ... وَلا التَذكيرُ فَخرٌ لِلهِلالِ
فأسألُ الله أن تكونَ في أفضل حال ...
10 / 01 / 2012