صَفْحَةٌ من طُفُولَتي ( 6 )
بقلم / ربيع بن المدني السّملالي
(( لاَزَالتْ ذَاكِرَتِي تحتَفِظُ بالكَثير الكثير منَ المواقف التي كنتُ أمرّ بهَا وأنا أسيرُ في دروبِ الحياة ، وأمضي في أزقّة الأيّام ..، فأتبسّم من بعضها وأكاد أبكي من البعض الآخر...))
... قبل موت أبي كنتُ أعيشُ في بيتِ جدّتي ( أم أمي ) في مدينة أخرى .. وكانَ بيتُ جدّتي لصيقَ بيت امرأة عجوز شمطاء بلغتْ من الكِبر عتيا، واشتعلَ رأسُها شيباً ، كانت طويلةَ القامة ، هزيلةً ، لونُ بشرتها نُحاسي صِرف ، ووجهها ( الذي برزت عِظامُه) متجعد مُرهق ، تقاسيمه لا تشي بجمالٍ غابر !. لها عينانِ مُتورّمتان مضطربتان على الدّوام كأنّهما تبحثان لها عن مُستقرّ ، وتحت أنفها الأفطس تنبتُ بعض الشُّعيرات المتطفّلة التي احتلّت ذلك المكان بقدرة قادر ... وكان يزعجني منها كثرة الوشم الذي نُقِشَ تحت شفتيها اليابِستين ، ويديها المتحجرتين المخضوبتين ، وكثيرا ما كنتُ أضيعُ في ميناء جهلي البسيط عن سبب ذلك الوشم الأخضر الذي يوجد في وجوه وأيدي كثير من النّساء العجائز آنذاك .. واليوم قد أصبح منتشرا بشكل رهيب عند أصحاب المخدرات والمسكّرات ، والشُّبان المراهقين ، وقد رأيتُ شابّا ذا بنية قويةٍ وشمَ في ذراعه صورةَ فتاة كُتب تحتها ( أحلام ) ، وبحكم معرفتي له سألته عن ذلك فقال : إنها فتاتي التي تزوجت وتركتني ! ...
وكانت ترتدي أثواباً مزركشةً مُختلفةَ الألوان تبعثُ على الضّحك والقرف في آنٍ ..وتضع على رأسها الأشيب منديلاً مُتهالكاً مليئاً بأقراص فِضية تشبه الدّراهم ..وتتدلّى من عُنُقها سُبحة طويلة ذاتُ عقيق أسود ..يَتَقَيّأُ بيتُها دائماً روائحَ البخور والجّاوي والشّبة والحرمل ..
وكانت سَليطةَ اللّسان ، سيّئةَ الأخلاق ، تطلقُ لحنجرتها حريةَ الصّراخ كلّما انتابها شعور بالضّيق وتملّكها إحساسٌ بالملل و الاشمئزاز ، تنتشرُ في دواخلها سُحُبُ الهمّ والغمّ والحزن ... تكثر من التّطواف عبر نواحي المدينة وأسواقها وتبني خيمتَها الخضراء كما اتّفق ، لتمارسَ مهنتها الخبيثةَ ( الكهانة و الشّعوذة ) .. كما تهيمُ على وجهها بحثاً عن الأضرحة والقِباب ، لطلب الْمَدَدِ والغوث والصّحة والعافية والمال الوفير ، وتقديم النُّذور ، وإشعال الشّموع ، لتلك العظام النّخرة التي تقبع هناك ..
والشّيء الذي لازال راسخاً في ذاكرتي رسوخَ الجبال أنّها كانت تعتني بكثير من القِطط ، وتعيشُ معها في بيتها المهترئ القذِر ، وكلّما خرجتُ من بيت جدّتي تصطدمُ عيناي بكثير من القِطط المكدّسة أمام بيتها ... لم أرَ في حياتي كلّها أحداً يعتني بالقِطط كما كانت هذه العجوز ،وحبّها لهذه الحيوانات الأليفة لا يعدله إلاّ حبّها لشعوذتها فيما أعتقد ! ...لا أذكر على وجه التّحديد كم كان عددها ، المهمّ أنّها كثيرة ، ومنها الصّغير والكبير والذكر والأنثى .وإذا مسّ أحد الجيران قطةً من قِططها بسوءٍ تُقيمُ الدّنيا ولا تقعدها ، ويكون ذلك اليومُ يومَ شرّ وسبابٍ ولعنٍ وعِراك ...وكأنها كانت خائفةً مُستحضرةً على الدّوام حديثَ المرأة التي دخلت النّار بسبب تعذيب هِرّة ومنعها الأكل من خشاش الأرض !
وراجية من الله أن تدخلَ الجنّةَ كالمرأة البغيّ من بني إسرائيل ، التي أدخلها الله الجنة بسبب شربة ماء التي سقتْ بها كلباً كاد أن يهلكَ عَطَشاً ! ..
انتهيتُ من كتابة هذه الصّفحة في 25 / 1 / 2012