بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والتسليم على المبعوث هداية للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
مقدمة لا بد منها
لعب الشعر بوصفه أحد الأجناس الأدبية دوراً كبيراً في تشكيل الهوية الحضارية لأمتنا العربية على مر العصور، القديمة والحديثة، وليس أدل على أهمية الشِعر في تاريخنا العربي من وصف أمتنا بأنها أمة شعر
ولقد لعب الأدب كأحد أشكال الوعي الاجتماعي المتميزة دوراً هاماً وأساسياً في تعبئة وتحريض وتثوير الشعوب والأمم التي تناضل من أجل انعتا قها، وفي صياغة الوجدان الشعبي العام، وبلورة الوعي الثوري والحضاري لدى الجماهير، هذا بالإضافة إلى وظيفتهِ الجمالية باعتبارهِ قيمة فنية مضافة للحياة تساهم في إعادة صياغتها وإنتاجها جمالياً.
إن جمال القصيدة بقوتها ، وقوتها بما تحدثه لدى القارئ و السامع ، وهذا ما لم يغفله شاعرنا الذي ابتعد عن كل المقدمات والشروح فالقصيدة التي تستوقفك طويلاً وتجبرك على القراءة بروية والتمعن في جزئياتها وعدم الاكتفاء بالتحليل اللفظي الشكلي للقصيدة ،بل الدخول لنفسية الشاعر
تعتبر من القصائد التي لها دلالية خاصة..
وإننا إذ نحاول فهم ما ذهب إليه الدكتور الشاعر سمير العمري والذي يلازمه هم الأرض والاغتراب ولا تفارق مخيلته مرابع الصبا – فلسطين – فإننا نحاول المشاركة في الهم الذي يوحد أصحاب القضية ... إذ لم يسلم الأدب العربي، عبر تاريخه الطويل، من تجربة المنفى الأدبي؛
فقد شعر الكثير من شعرائه وكتّابه بطعم الاغتراب والبعد عن الوطن، واشتاقوا إلى الأمكنة التي هجروها، لسبب قاهرٍ على الأرجح.
تجسّدت معاناة هذه التجربة في صيغٍ كتابيّة متنوّعة، بدءا من طلليّات الشاعر الجاهلي، ومروراً بكتّاب وشعراء ذاقوا النفي حنظلاً وكتبوا عنه، ولعلّ أشهر هؤلاء أبو حيان التوحيدي ودعبل بن علي الخزاعي وأبو فراس الحمداني والمتنبي وأبو تمام وابن عبد السلام الخشني وابن زيدون، إلى أحمد شوقي وسامي البارودي وعلال الفاسي وطه حسين وتوفيق الحكيم في العصر الحديث
والشاعر الدكتور سمير العمري يشاركهم الهم ففي هذه القصيدة يجمع عدة خيوط ليوشي بها شوق نفسه لبيت المقدس ويمزج ذلك بعدة رؤى من خلال معتقده الفكري و تجربته الحياتية
حيث بدأ القصيدة بمنولوج داخلي بينه وبينها محاولاً أن يرسم صورة حركية للولد المدلل الذي يعتلي ظهر والده فلا يزيد الوالد إلا حنانا والمولود إلا دلالاً
وهي صورة فريدة للشاعر وقد استمدها من الواقع المعاش فقال:
خَطَرَتْ عَلَى قَلْبِي فَقُلْتُ لَهَا: اعْتَلِي**وَتَدَلَّلِي مَـا شِئْـتِ أَنْ تَتَدَلَّلِـي
وَتَجَوَّلِي بَينَ الكَوَاكِـبِ نَجْمَـةً**وَتَسَلَّلِي فِي القَلْـبِ بَـدْرَ تَبَتُّـلِ
دعيني أتكلم غصباً عني ..فالكلمات إن لم تخرج وتناغيك ..فلمن تكون ؟؟؟؟
وَتَصَوَّرِي مَا رَاقَ مِنْ قَوْلِي هَـوَى**وَتَسَوَّرِي مِحْرَابَ صَمْتِيَ مِنْ عَـلِ
ثم أن الشاعر لم يستند إلى عنصر "الصنعة" فقط في عملية البناء الشعري،
بل زواجَه مع عنصر "الانسياب" والتدفق الشعوري، ولولا هذا التزاوج المدهش لفقدت القصيدة
عفويتها وانسيابيتها وتدفّقها العاطفي.
ويمكن القول بأن كلا العنصرين المذكورين:"الانسياب والصنعة"، قد تزاوجا وتلاقحا بشكل فني وكلي، وأنتجا لنا محاولة حسية في مطلع القصيدة
بأن أمسك بخاصرة إبريقه قائلاً:
إِنِّـي بِإِبْرِيـقِ المَحَبَّـةِ أَحْتَسِـي**جَدْبَ المَشَاعِرِ فِي القُلُوبِ العُـذَّلِ
وانسكبت المعاني والصور مشفوعة بأفعال حركية
( أحتسي - ألوك –أغض ...وأسعى ... وأجني )
وَأَلُوكُ مِنْ هَرَجِ الحَوَادِثِ بَاسِمًـا**جَنَفَ الوَرَى وَأَغُضُّ عَمَّنْ يَأْتَلِـي
مَا انْفَكَّ يَمْنَعُنِي التَّوَرُّعُ فِي الجَوَى**حَتَّى جَنَيتُ عَلَى غَرِيـبِ المَنْـزِلِ
أَسْعَى بِأَجْنِحَةِ الخَيَالِ إِلَـى غَـدِي**وَأُعِيدُ مِنْ ذِكْـرَى الزَّمَـانِ الأَوَّلِ
زَمَنٌ بِـهِ خَلّفْـتُ أَيَّـامَ الصِّبَـا**وَتَرَكْتُ طِيـبَ تَهَلُّلِـي وَتَأَثُّلِـي
حَيْثُ النُّهَى انْطَلَقَتْ لَهَا سُرُجِ المُنَى**قِيَمًا تَجِلُّ بِهَا النُّفُـوسُ وَتَجْتَلِـي
أَرْنُـو إِلـى دَارٍ تَبَـدَّلَ عَهْدُهَـا**لَكِنَّهَا فِـي القَلْـبِ لَـمْ تَتَبَـدَّلِ
وكلها أفعال تدل على الفعل الذاتي الذي يحاول الشاعر عن طريقه رسم الصور وتوليفها بحيث تؤكد للسامع والقارئ كما أسلفنا قوة القصيدة
فاستدعاء ما كان سابقا من موروثات ,شخصها حاليا بهذه المقاربات للفعل الشخصي
ثم عمد إلى إدخال الفعل ...إخال
وَإِخَالُ لَوْ نَطَقَ الحَنِيـنُ لأَقْبَلَـتْ**بِالشَّوْقِ مِثْلِي تَجْتَبِي وَتَبَـشُّ لِـي
وهذا الفعل كما ورد في المعاجم :
خالَ (. القاموس المحيط)
خالَ الشيءَ يَخالُ خَيْلاً وخَيْلَةً، ويُكْسَرانِ، وخالاً وخَيَلاناً، محرَّكةً، ومَخيلَةً ومَخالَةً وخَيْلُولَةً: ظَنَّه،
وتقولُ في مُسْتَقْبَلِهِ: إِخالُ، بكسر الهَمْزَةِ
و~ فيه الخَيْرَ: تَفَرَّسَهُ
وكنت أظن أن الشاعر قد أخطأ في استعمال الفعل ولكنه الإيراد عن قصد للمستقبَل من الفعل
وهذه بحق قوة في الصنعة لايجيدها إلا بارع في فنه
ثم يطرح الشاعر رؤيته للغربة ومآلاتها ويستدعي شوقه لفلسطين الحبيبة على قلب كل بر يراها اغتصبت وهجّر اهلها
بأبيات لايسع المتلقي إلا أن يتأثر بها
أَنْفَقْتُ عُمْرِي فِي التَّقَلُّـبِ غُرْبَـةً**مَـا بَيْـنَ دَرْبِ تَأَلُّـمٍ وَتَأَمُّـلِ
وَعَصَرْتُ أَيَّامِي وَأَحْلامِـي التِـي**نَضَجَتْ لأَسْقِي مِنْ دِنَـانِ تَعَلُّـلِ
دَارَتْ مُشَعْشِعَـةً تُـرَاوِدُ رَبَّهَـا**فَكَأَنَّ أَعْذَبَ كَأْسِهَـا كَالحَنْظَـلِ
يَا لَيْتَ مَا قَدْ فَاتَ عَـادَ فَعِشْتُـهُ**كَي أنْصِفَ المَاضِي وَأُنْقِذَ مَا يَلِـي
ولعل إبداع الشاعر الدكتور سمير في هذه القصيدة يتجلى أكثر مايتجلى في كيفية رسم وبناء الصورة الفنية،
فهو يتمتع بطاقة تخييلية عالية ومخيلة مبدعة أنتجت لنا العديد من الصور الشعرية المشرقة والموحية واللماحة،
إن رسم الصورة بحرفية عالية يتجلى في أنها صور مبتكرة تمتاز بجدتها، وبتماسكها الفني،
كما أنها "غالباً" صور مركبة تتكون من عدة ظواهر، ويتزاوج فيها المجرد بالمحسوس، والواقعي بالحلمي، والعاطفي بالفكري
مثل سُرُجِ المُنَى عصر الأيام- التسول – التوسل- جداول – صخر السنين- الروح- الفراشات السفرجل في المرجل
فالشاعر يسعى إلى بناء طقس شعري، وإلى إضفاء روح الشعر على مفاهيمه من خلال تآلفها وتمازجها.
بعبارة أخرى يسعى إلى شعرنة الواقع
ثم يختمها بالأمنيات التي نرجو أن تتحقق بعونه تعالى وتكتحل عيوننا برؤية بيت المقدس والصلاة فيه
مَا زِلْتُ أَحْلـمُ بِاللِقَـاءِ بِلَحْظَـةٍ**عُذْرِيَّةِ الإِحْسَـاسِ لَمَّـا تَذْهَـلِ
وَنَقِيمُ فِي القُدْسِ الصَّلاةَ وَنَحْتَفِـي**بِالأُمْسِيَ اتِ عَلَى جِبَـالِ الكَرْمِـلِ
إن حفظ العهد والمودة..من الصفات الحميدة التي يجب أن تتوارثها الأجيال وهذه تتمثل في شاعرنا، خير تمثيل إذ يقول
سَأَظَـلُّ أَحْفَـظُ لِلمَحَبَّـةِ ذِمَّـةً**تُقْصِي عَنِ الوَاشِينَ كُـلَّ مُؤَمَّـلِ
لَوْ جِئْتِنِي لَفَتَحْتُ جَنَّـةَ مُهْجَتِـي**وَلَقُلْتُ: يَا نَفْسُ اطْمَئِنِّي وَادْخُلِـي
ويقول لنفسه تدللي
وحق لها أن تتدلل فلقد أغناها بما يمكن أن يتحقق
وهذه القصيدة.... تعتبركرمية بحجر في الماء الساكن....فلقد حرص
صائغها على تضمينها إرثاً أدبياً يحرك ويساهم بشكل مباشر في بلورة المفاهيم السياسية والعامة لدى كثير من شباب الوطن ،
وهو صاحب امتداد تاريخي نرجو أن يؤثر في الجيل الصاعد من الشعراء والشواعر الشباب الفلسطينيين
وكما يبدو بنظري المتواضع يمثل إبداعاً يبشر بمستقبل وحضورٍ فلسطينيّ قويّ في المشهد الشعري العربي،
وربما العالمي أيضاً، من يدري! هو رأي!!!
إن هذه القصيدة " تدللي" تكشف عن موهبة شعرية خلاقة، وطاقة فنية مبدعة، وتؤكد على أنها من القصائد النادرة فعلاً،
التي تعبر عن د. سمير العمري بشكل فني خلاق.
وإنني أعترف بأن قراءتي النقدية هذه متواضعة لأني لم أدخل فيها في تفاصيل التفاصيل للنقد وإنما قدمت نقدا بسيطا يفهمه الجميع كوني أعي تماما أن أصحاب المواهب ينظمون الشعر سليقة وليسوا بحاجة لأمثالي ..
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى نعتها بالمتواضعة لأنها صدرت مني وأنا لست بناقد والاعتراف بالحق فضيلة كما يقال ,هذا جهد مقل ولكنه التذوق الذي رأيته ولمسته
فأرجو المعذرة إن حصل قصور وعجزت كلماتي عن اللحاق بمقاصد الشاعر والقصيدة
وختاما أجدني مدينا بواجب الشكر والتقدير للواحة التي حفزتني لتقديم مثل هذه المشاركة
ودمتم بكل الود العامر
وكتبه أبو عبيد الله أحمد خلف