هل تغير الفتى؟، إنه لم يعد طفلاً قصير القامة ، متورد البشرة ، برىء الملامح ، أما قامته فأصبحت طويلة ، وبشرته كحلتها شمس النهارالحارقة ، وملامحه لاتفارقها براءتها ولكن خالطتها ما يقولون عنه معرفة وخبرة..فإذ جاء الذكر عن أماكن تواجده ، ففى أجازة الصيف قلما كان يغادر غرفته الضيقة ، أربعة جدران وهو خامسها ، ولا تستعجب ما يفرقك عن الجدار يا (سعيد) إن لم تتكلم!..فلتسترق السمع إلى خالك الجالس فى الخارج يتكلم مع زوجته، ساعة أن قال لها هذا الفتى أنانى ومعزول ، كأنه هو الشمس تدور من حولها الكواكب ، فتقول له : وما ذنب الفتى بعدما فعلت أمه ..قد اخطأت فى حقه أشد خطاً ، كيف قد زوجتموها ، وهى مريضة؟!..
(مريضة)!..هذه كلمة جارحة يا زوجة خالى ، قلتها يا (سعيد) فى قلبك ، فلما لا تقلها علانية ، أتجبن أنت عن كلامك غيرك؟..ولولا صورة أمك أمامك ما منعك أن تنهض قائلاً ما تريد ! ، إن الذى يمنعك عن هذا لهو صوت قديم يصم أذانك ، فإن حاولت نهوضاً يقول لك :"يا (سعيد) قد اسأت !"..كيف لم تنساها بعد؟..ولولا صداها لما قابلت خالك وزوجته بإبتسامة بشوشة ، وكأن شيئاً لم تسمعه ، يجلسون وتجلس معهما، وتجلب لك ذاكرتك كلماتهما ؛ فتتحفظ فى جلستك..
"هذا الفتى أنانى ومعزول ، كأنه هو الشمس تدور من حولها الكواكب"
"وما ذنب الفتى بعدما فعلت أمه ..قد اخطأت فى حقه أشد خطاً ، كيف قد زوجتموها ، وهى مريضة؟!.."
يا أيها الأصوات اللعينة..كفى ، ما أن أتبعكم حتى يصيبنى الهلاك ، لن أستمع إليكم ، ولا تتبعونى إذا نهضت قاصداً غرفتى من جديد !..
ويوم أن تنتهى الأجازة يغادر الصبى غرفته ، وهو يتحسر الأيام الخوالى..ساعة أن يبدأ الفصل الدراسى الجديد ، وقد توافد على الفصول طلابُ من أصناف وأشكال عدة، ومازال الصبى يهاب الآخرين أن ينظر إليهم ، ولكن تغييراً أصابه فلم يمانع أن ينظروا هم إليه ؛ فلم يعد على مقاعد الفصل الخلفية آثار تحملها له ، وليس على بعد من الأنظار جسده يستقر خائفاً ، بل فى أول الصفوف والمقاعد ، وما كان سبب هذا التطور إلا نبوغ الصبى ، وقد كان فى بداية الأمر فى خيار مصيرى بين أن يجتهد فيُثنى عليه ، أو يفشل فُيعاب عليه ، وما كان للصبى من شعور أفضل له من الثناء ، فكانت بشرته تتورد ، وعيناه تتسعان ، وقلبه يرقص ، وربما نسى خجله الدائم فكلم أحدهم أو قال مقولة ينطلق فيها لسانه دون أرتباك أو همهمة ، ولعل من حوله يذهلوا أيضاً عقب سماع نكتة أو قفشة يكون هو قائلها ، فتكون هذه معجزة نادرة الحدوث ، تحمل فى طياتها أحاديث الطلاب يتكلمون عنها طيلة اليوم وما يليه من أيام.. يقولون: "ها قد تكلم أبو الهول ، وما عهدناه متكلما ً!"..ولو عاب أحدهم عليه وجدتموه شارداً ساهماً عيناه فى الأرض ، ووجهه قد أخضبته الدماء ، يرتبك ويضطرب ، وقد فعلها معلم اللغة العربية من قبل ،فما كاد الفتى أن يستقر فى مجلسه بعد الطابور الشاق ، حتى رأى المعلم ، وقد أكفهر وجهه ..وكان عادة المعلم ضحوكاً ، لا يميل إلى صخب وطرد ورفص ، وعلى عكس الأيام الماضية كان يومها المعلم على غيرعادته من حالته المنتعشة دائماً ؛ فزوى ما بين حاجبيه مكشراً ، يرمق الجميع بنظرة إزدراء وكأنهم جرذان صغيرة تحوط به ، وأيا ً كانت الضغوط على المعلم ، فإنه ما وجد أحسن من الصبية ليفرغها فيهم ، ومن الصبية ما يوجد من هو أكثر إستكانة من فتانا ، وما كاد الفتى أن مد يداه إلى النافذة يفتحها مدخلا ً بعض من نسيم الهواء ، فوجد ولدهشته المعلم ينقض على النافذة معيدها وضعيتها الأولى ..يقول مصرخا ً فى وجهه:
-" يا أبله ..ألم أقل ألف مرة أن هواء النافذة يأذينى ، إن فعلت هذا مرة آخرى لأطردنك من الفصل أشد طردة !"
هو (سعيد) بنفس تلعثمه جلس صامتاً بعد الإهانة ، كلماته المتلعثمة يخاطب بها نفسه ، ولا يسمعها سواه..هو (سعيد) بنفس نظرته النافذة لأسفل ، وجسده المتقوس ناحية الأرض ، وكلمات معلمه التى تربعت فوق ظهره..هو (سعيد) بنفس عيناه التى يرى بها السخرية فى نظرات الجميع..هو (سعيد) ناظراً إلى النافذة المغلقة ، ثم عائداً للنظر فى كتابه يجفف عرقه ..هو المعلم يعاوده مرحه من جديد ، وكأن شعلة الغضب بداخله قد نفدت فى كلماته الأولى ..هو المعلم قد نسى ما حدث ولم يعر (سعيد) أنتباهاً ..
ولكن أحقيقة (سعيد) قد نسيت ما حدث؟!..ولا تظن أنك كأى طالب قد تنسى هذا ..كلا ، سيظل فى قلبك طويلاً جدا ً ، لن تنساه ، جزءاً جديد يُضاف إلى عقدة قديمة ، بالضبط كدائرة مفرغة كلما وصلت إلى نقطة النهاية وجدتها قد خلقت ألف بداية آخرى جديدة !..
ولا يظن أحد أن حياتك يا فتى قد خلت من الإنجازات والثناء ، فما من طالب قد أخذ من الثناء قدر ما أخذت ، ولا طالب قدِر له من الدرجات قدر ما نلت ، ولا أحترام قد سبق وحصّله أحد إلا أحترام زملاءك لك ، ولا يضرك إذا نسيت سخريتهم منك أحياناً !..
وما كان للفتى أن ينسى نظرات الإعجاب التى أحاطت به من كل صوب نظرا ً لسرعته الهائلة فى الإجابة والأستذكار ، فكان هذا يملأ عيون الطلاب بالحسد والإعجاب ، والحق أنه ليس الأمر هكذا فى عيون الطلاب فقط ، بل والطالبات أيضا ً ..(سعيد) لا شك أنك قد لاحظت نظرات بعضهن ..نظرات إعجاب رغم خجلك وتلعثمك ، أعجبهم ذكاءك وتفوقك بغض النظر عن خجلك المرضى ، إن الفتيات لا تحب الخجول ، ولكن بعضهن يرى فى ذلك رجولة من نوع خاص ..الذين تكلمهم فلا يجيبوك قد يكونوا مترفعين عن الخوض فى سطحيات الكلام..الذين تحتد معهم فلا يعيروك أنتباها ً قد يكونوا أسمى من أن يردوا عليك ..الذين يهيمون على وجوههم شاردين قد يكونوا عباقرة لا يفهمهم أحد..الذين يتعلثمون حينما يكلموك قد يكون هذا سببه بحثهم عن أطيب الكلام يكلمونك به .. الذى يستحى وهو فتى فى عصر لا تستحى فيه حتى الفتيات لهو عملة نادرة فى هذا الزمن..فكرت الفتيات فى هذا فأستحسنه بعضهن ، والبعض الآخر لم يستحسنه ، وقد تدخل ذكاء ووسامة الفتى فى جعل بعض الفتيات يحاولن بدء بعض الكلام معه ، ولكنه كان يعرض عنهن كأنه لا يسمع ، فيعلمن أن هذا ليس تكبر بل خجل زائد عن اللزوم ، ولا شك أن هذا قد جعل الفتى مزهوا ً بنفسه ، يقول : "صدقت أمى ..أنا أفضل الجميع!" ، وحدث ذات مرة اثناء سيره فى ملعب المدرسة ، أن وجد أن فتاة ما تتبعه ، ولم يكن قد عهد إلى كلام معها من قبل ، ولكن وجهها قد تذكره فيما بين ما رآه من الوجوه من قبل ، وما أن تحرك من مكانه حتى نادته ..يميناً تناديه ..يساراً تناديه ..أماماً تناديه.. خلفاً تناديه..يقول أحدهم : "هذه (جيهان)..ما أرغمها على تتبع الصبى؟..أتريد أن تصادقه هى ؟..أأجمل فتيات المدرسة تصادقه هو؟!!" ، أما الصبى فسائر فى طريقه لا يسمع نداءها ، أو يسمعه ويتجاهله.."(جيهان) أبتعدى..(جيهان) كفى..(جيهان) وجهى قد أخضبته الدماء ..(جيهان) لا أتحمل صوتك الرقيق ينادينى أكثر..الحمد لله ها قد مشيت..يا إلهى لماذا عدت ِ من جديد؟!!"..من كانت تتبعه لم تكن تسمع هذا الكلام ..بداخله هذه الأفكار المضطربة تصطرع فى صمت ، أما ككلام مسموع يقوله فما كان يصدر إلا همهمات ..وأنتهى الأمر إذ تركته الفتاة يائسة بعد أن تتبعته ، والحق أن الفتاة لم تكن تريد شيئاً إلا أن تتعرف على كائن غريب يمشى على الأرض ..ذكى..قليل الكلام..خجول ..معتز بنفسه ، والذين من حولهم من الطلاب لم يجدوا أفضل من هذه فرصة لنسج القصص والأساطير ، يقضون بها أوقاتهم ، يقولون: قد أرادت مصادقته ورفض !..ومنهم قائل يهتف: ياله من فتى ..كيف صبر على جمالها؟ ، ولم يقبل صداقتها على الفور ..وآخرون : لقد بدا وكأنه لم يسمع نداءها ، لم نكن نعرف أن الفتى فى أصطياد الفتيات ماهرا ً هكذا .. وآخريات: لا تعر للحاقدين أنتباها ً ..أنت رجل يا (سعيد)..أنت رجل يا (سعيد)..أنت رجل يا (سعيد) ..
يا إلهى ..قد سمعها مزهواً ، أنتظرها وهاقد قيلت له أخيرا ً ..أنت رجل ! ، قال له الكثيرون: أنت مجنون ..أنت معقد ، ولكنهم أخيراً قد قالوا له أنت رجل ..هكذا كان الجميع خاطئين عندما سخروا منه..هو الرجل ولا أحد سواه..تصرفاته رجولة ومسؤولية ..(سعيد) قالوا عليك رجلا ً !
وكان لابد للفتى من اللجوء لحيلة نفسية كى لا يتأثر بأى فتاة يُعجب بها ؛فيضطر أن يقع فيما يقع فيه الآخرين من لهفة وظمأ نحو شعور وهمى ، أو يدفعه دافعا ً إلى أن يكلمها أو ينظر إليها ، فما لقى فى عمره فتاة لمس فيها بعض الجمال ، حتى يأخذ فى إبراز عيوبها ، وإن لم تكن ظاهرة ، أو حتى موجودة من الأصل ! ، فما أن يقع بصرك يا (سعيد) على فتاة لا عيب فى وجهها فلا تجد إلا أن تعيب عليها مشيتها ، مالها تتقصع هكذا؟ ..وما أن ترى من أتسقت مشيتها ،وأحترمت تصرفاتها ، وحسبت خطوات ، حتى يقول ما به وجهها قد ضاقت عيناه ، وشحب كأن الدماء تأبى تدفقها فيه ،كيف ينشرح صدرى لها إذن؟ ، وبناء ً عليه يا فتى أغلقت شهيتك عن كل جمال وأى إحساس نحو الجنس الآخر ، أو كما يسمونه الجنس اللطيف ..فإذا تكلمنا عن أبنة خاله التى يراها كل يوم أمامه فى المنزل ، فكانت بالنسبة له أخته التى لم تلدها أمه ، أما هى فقد كانت تكن له شعور مماثل مع بعض التحفظ والكراهية لخجله وغروره،ولا ينفى هذا أنها كانت تعتبره فرداً مهما ً من أفراد أسرتها الواحدة ، وكانت علاقة الفتى الأسرية قد بلغت بعض من الألفة والتعود جعله يختلط بأفرادها أجتماعياً أكثر بكثير مما أختلط به مع زملاء المدرسة القدامى، فتحطم الحاجز النفسى فيما بينه و بين الأسرة بعد فترة لا بأس بها ، وبدا أن الوضع يتحسن يوما ً بعد يوم..
والآن (سعيد) متى رأيتها أول مرة؟!..
دخلت هى الفصل الفسيح لأول مرة منذ يومين ، وأخذت أنت تنظر إليها بإمعان ، وتنظر أيضا ً لمن حولك ، وقد جذبت الفتاة أنظار الجميع ..يقول أحدهم : ما أجملها! ..وآخر: ما أرقها !..وقائل : ما أروعها!..وتقول أنت يا فتى: "لعلى أجد فيها خطأ ً" ..هيا يا (سعيد)..ماذا عن ملامحها؟..ما أجملها ، وما أحسن أتساقها!..صوتها؟..رقيق يناسب شكلها وروعة حٌسنها!..تصرفاتها؟..رقيقة مهذبة!..حالها؟..ضحوكة ساحرة !..ذكاءها؟..ما رأيت من الفتيات من تضاهيها ذكاءها !..عيوبها؟..لم أجد اللهم إلا إضطرباها..
متى بدأ قلبك يخفق يا ولد؟..
الذى حدث أنه منذ اللحظات الأولى قد خفق قلبك ومال إليها ، وكم تصدى هذا القلب لهجمات العديد من الفتيات ..لم يصدع ، ولم يستسلم .. وهاهو الآن قد أنهار.. فأصبحت لا تستطيع أن تدارى نظراتك التى تفضح أمرك ، ولا توترك كلما سمعت صوتها قادما ً من بعيد يحمل فى طيات أصداءه عزف ونغم !..
وما كان هذا الهوس ليقتصر عليك فقط ، بل أن أمتد ليسيطر على الطلبة كافة !..فقلما ما تجد الفتاة تسير بدون من يتبعها ، أو من يحاول بدء حديث يقودها إلى التعرف عليه..ولم يكن الفتى ممن يتبعونها لخجله ، فأكتفى بمتابعتها من بعيد بنظرات غير مباشرة ، أفيتخلى عن جراءته ويعبر لها عن إعجابه؟ّ! ، أوليس هو صاحب المبادىء ، وأنه لا مجال لمصادقة فتى بفتاة ، وخاصة أن أحدهما لا يتعدى المرحلة الثانوية !..وهكذا كانت أغلب أراؤونا إذا لم نكن نعانى قلنا هذا صحيح ، وهذا خطأ ..فإذا حدث وعانينا بسبب هذه الأراء ، تنقلب الآية فيصبح الصحيح خطأ ، والخطأ صحيح ، هؤلاء هم من أكتفوا بمبادئهم مجرد كلام على ألسنتهم يلهمون به أنفسهم أنهم ذوى مبادىء عظمى ، أما فعلا ً فمبادئهم لا تتجاوز الحنجرة ابداً ..و(سعيد) أحياناً ينضم إلى هذه الفئة ،ونراه قد أنضم إليها بالفعل فى هذا الموقف ، وما منعه من الإقدام لمخاطبتها إلا خجله ! ، وهاهو قد نوى الفتى بالفعل أمرا ُ بشأن هذا الصدد..هل يواجهها مباشرة بما يكن لها من مشاعر؟..لا..بل يكتب خطابا ً يقول فيه ما يريد دون مواجهة !..وجعله موقفه السابق مع الفتاة التى صار حديث المدرسة عنها وعنه أياماً يثق بنفسه بأنها ستتقبله ..بالتأكيد ستتقبل مشاعره..هو رجل كما قالوا له، وهو أفضل الجميع..إنها ..إنها..حسنا ً سيكتب الخطاب اليوم !..
(سعيد) جالساً فى غرفته ، وممسكا ً بالقلم الحبر ، وكاتبا ً على الورق الفلوسكاب المسطح ..يكتب بتحفظ ولا يفضى بكل ما لديه..قال أنه معجب بها ، وإنه يكن لها مشاعر نبيلة ، ويتمنى صداقتها ..لقد كان يكتب وهى فى عينيه لذا كتب بصدق وإعجاب حقيقى ، وجاءت اللحظة التى أنهى فيها كتابة ما أراد ، والآن هل ستبعثه حقاً؟..نظرات التردد فى عينيك ، يصاحبها خجل يلتهمك دون رأفة بحالك ، ولعلك الآن يا (سعيد) تتساءل حائرا ً: أأبعثها؟؟..كلا.. بل نعم ..ربما ..فكر فى الأمر.. لا مجال للتفكير..قد تندم ..أعرف..ماذا ستفعل؟؟..أبعثه ؟..إن رفضت؟..ثق فى نفسك ..هل؟.. أنت أفضل ممن سواك ..وإن قبلت كيف لى أن أواجهها أمام الجمع الحاشد؟..لا لن أفعل ..بل لا تستسلم لوساوسك ، أبعث خطابك ، وكل ً سيكون على ما يرام..ستجد بعدها القدرة على المواجهة..أنا..أنا أعرف نفسى !..بل لا تعرفها ..صدقنى تستطيع فعلها !..تستطيع فعلها!..تستطيع فعلها !..تستطيع فعلها!..تستطيع فعلها!..
كفى !..سأفعل..
ولما أنقضى الليل بعد فترة طويلة من الحيرة والوسوسة والخيالات الفزعة ..جاء الصباح ومعه تحدى جديد للفتى ، وبعد منتصف اليوم الدراسى صعد الجميع إلى فصولهم من جديد ، وكان (سعيد) أول الصاعدين إلى الفصل ..وخلا المكان إلا من أنفاسه المضطربة ، وأصوات مناداة وصياح تنقلها النافذة صادرة من الأسفل ، وما كانت إلا دقيقة دس الخطاب فيها بين طيات صفحات أحد كتب الفتاة ..أمامك فرصة يا (سعيد) لكى تأخذ الخطاب من جديد..مد يديك ..هيا قبل أن يصعدوا ..أنت تعرف عواقب هذا ..هيا ..هيا قبل أن ..أن ..هاهم قد صعدوا ..أنهارت فرصتك يا فتى لتحاول إسترداد الخطاب ..ستقرأه هى شئت أنت أم أبيت ، وما عليك إلا الأنتظار !
هو يوم الأجازة يمر بطيئاً ..هو يوم الإجازة يمر مثيراً ..هو يوم الأجازة قد مر بلا إستذكار ، مع أن (سعيد) لديه إمتحان بالغد ، ولكن لا وقت الآن لإمتحان الغد ؛ فلديه أمتحان آخر يمر شاقا ً بطيئا ً ..آه لو أجتازه !..أما إمتحان المدرسة فسيسعفه فيه ذكاءه ، وهو يثق فيه..
وجاء الغد يحمل فى سرابيله أشياء وأشياء ، يترقبها ولكنه يهابها ..وقتها دخل باب المدرسة بخطوات مرتجفة ، رأسه منحنية أرضاً ، ووجهه شاحب ، تأمل الوجوه الآخرى فوجدها مضطربة ، ينادونه : يا (سعيد) نريدك..يقول : ماذا هناك ؟..فلا يفعلون شيئا ً سوى أنهم يضحكون ، وينظر إلى الفتاة تمزح مع صديقاتها ..هاهى تشير إليه ، تهمس وتتحرك شفتاها كأنها تقول: "هاهو الأبله..هاهو الأبله"..الآخرون يقولون : "هل يعقل من ظنناه موسى أن يكون فرعون ..وماذا يفعل ؟!..يبعث لها خطاب ..أيظن هذا أنها ستلقى بالا ً له ، ونحن كلنا نسعى وراءها ، أظن أنه سيعجبها شيئا ً فيه ؟، وماذا سيعجبها فى خجل الأبله؟ !"..وينظر الفتى فى عين من قالوا عليه رجلا ً فيما سبق..عيناهم حادة ساخرة تقول : "ما هذا إلا غر ساذج"..ويكاد الفتى يغشى عليه فاقدا ً وعيه ..أهذه حقيقة أم هو يحلم ..لا ..بل حقيقة !..أوراق الإمتحان توزع ، وما أستذكر شيئا ً بالأمس ..لا يعرف السؤال الأول ، ولا الثانى ، ولا الثالث ..يا للمصيبة ..لا يعرف إلا بعض ما فتح الله عليه من إجابة السؤال الرابع ..سيرسب ، ولأول مرة ..الدنيا تدور وتدور ، وعيناه تزوغان وتتوقفان عن أداء دورهما ، فلتنتظرا حتى يجاوب السؤال الرابع ، ولكنه يسمع همهمات المعلمين ، لقد وصلهم الخبر ..يتكلمون ، ويضحكون ..هاهو المعلم الذى أهانه يضحك ، وتتسع ضحكاته أكثر وأكثر ..بالتأكيد قال عنه أكثر مما قال من قبل ..يا إلهى قد فضحته الفتاة..لا يستوضح معانى الكلمات ، قد فرت الأجوبة ، وأنعمدت الرؤية ، وجاء وقت جمع الورق ..يقول الجامع : "ورقتك خاوية "..فلا يجاوبه .."ألم تستذكر ؟"..فلم يعرف ما يجاوب به إلا أن قال شاحبا ً : "قد أنتهيت ، وليس لدى ما أضيف" ، ونهض وما كاد يبلغ بضع خطوات قد مشيها حتى وقع أرضاً ؛فحمله المعلمون مسرعين إلى عيادة الطبيب ..بعض الطلبة يقولون: "هذه آثار هجر الحبيب !"..والبعض يقول : "حرام ..قد ظ ُلِم الفتى " ،وأُرسل الطبيب إلى خاله ؛ فجاء مسرعا ً ، وعاد معه الفتى إلى البيت بعد ان شخص الطبيب الأمر كإرهاق ، وما خفى عن الفتى نظرات خاله إليه ..حادة تعبر عن الكثير ، ولكنها لا تفصح عن أمرها ، بالتأكيد قد قالوا له شيئا ً ، ياللفضيحة !..قد ظنه الجميع ملاك ، وأتضح لهم عكس ذلك ، قد ظن نفسه لا أفضل منه ولا أجدر ، وأتضح له أنه خاطىء ، وفى حجرته المغلقة يسمع ضحكات من الخارج ..يسمع كلام ، ويسمع اسمه بين ما يقال منه ..كيف تقابل الناس بعد هذا يا فتى ؟!..إما أن تقابلهم ، وكأن شيئا ًلم يحدث ، وتلغى ما يسمى بالخجل من حياتك ، وإما أن تقابلهم آسفا ً رأسك منحنى ، ووجهك تخضبه الدماء ..ماذا فعلت بنفسك؟؟..وماذا فعلت تلك الفتاة؟ ..وماذا فعلت أمك بك؟..إن الحياة لا تطاق هكذا ..صوت يتردد فى أعماقك يقول : (سعيد) قد اسأت ..(سعيد) قد اسأت ..(سعيد) قد اسأت ..أما لهذه الأصوات اللعينة من نهاية ؟..أفتح النافذة يا (سعيد) لعلك تستنشق بعض الهواء الرطِب ، ولكن الهواء ينفد ، وما يراه (سعيد) من خلال النافذة هى أوهامه التى عاشها..حياته التى حبس نفسه بها..كيف عاش ما عاش مسجونا ً فى سجن من وهم..فى سجن من خجل ..فى سجن من عذابات لا مصدر لها سوى عقدة لم يستطع حلها ، وهى فى واقعها حلها بسيط ، عذبته كثيرا ً وكثيرا ً وكثيرا ً ، ثم أنهارت بعد هذا نفسه ..أنهارت صورته الكاملة التى رسمها لنفسه..أنهارت كلمة أنا ..وضغط عليها الساخرون بأحذيتهم..لا مكان لك إن كنت أنت أهم شخص بالنسبة لك ..أنت كل حياتك ، وأنت كل ما تخاف ، والناس صورة ترى فيها خشيتك من نفسك ..لابد من حل ..لابد من حل ..ستنام ، ثم تستيقظ ، وستجد الحل بعد هذا واضحا ً..ستمضى الساعات بطيئة ، ولكنك يجب أن تتخلص فيها مما بك ..يجب !..
ثم جاء نهار اليوم التالى ، ودخلت النسمة الرقيقة من النافذة التى كانت لا تزال مفتوحة ، وألقت الشمس بظلها على الحجرة ، وعكست أشعتها عبر النافذة ليسطع نورها داخل المكان ، ولأول مرة يدخل نورها الوهاج الحجرة بعد أن كانت نافذتها دائمة الإغلاق ، أما زهرة النرجس فلم تعد فى نفس وضعيتها بالمكان ، كانت هامدة لا تحرك ساكناً ، قد فارقتها الحياة ، لقد علموا بعد هذا أنها قد ذبلت وماتت ! |