في شرود عارم وخوف مكتنز،كانت أول خطوة خارج العتبة ..
السماء ملبدة بغيوم سوداء توحي بنزول مطر صاخب غزير،زمهرير جو بارد كما هو حال فصل الشتاء عادة.
بين رائح و غاد ، جماعةٌ تبدأ رحلة كسب قوتها اليومي ..
سحبت التذكرة ،دلفت نحو الباب لأتقدم الصفوف الأولى من القاطرة،خذت مكاني ،ولحسن حظي، أو لسوئه، كان القطار فارغا إلا من بعض الركاب.
على كرسي فارغ وضعت جسمي المنهك ،وعبراتي تكاد تنهمر دون سبب ، طفقت أسترق النظر إلى الطبيعة عبر زجاج النافذة الذي تذبحه سكة القطار .
وراء الزجاج كانت القطط تنوء ،والكلاب تفر،و الأشجار ترتعش مناجية ربها من شدة الرياح الوافدة من هنا وهناك ..
المنظر نفسه ، هيجان أمواج البحريلتقي بقبة السماء الرمادية التي تحرك الخيال الهامس والمشاعر الدفينة كما تحرك الأشواق و الأشجان ..
....المسافة نفسها ..الوضعية ذاتها .. وحدة قاتلة في الأعماق.. تكرار مميت.. أسئلة مزدحمة متداخلة ..أسئلة تشغل بالي و تجهد فكري..
من يخاف علي من صقيع البرد و زخات المطر؟
من يتفقدني في الليالي البهيمة؟
من يكفكف هديل دموعي ؟ من ..؟من ..؟
أول مرة حطت قدمي أرض هذه المدينة الطيبة، تركتها طريحة الفراش .. مرت أيام السنة كالبرق الخاطف للأبصار.. متقلبة بين نشاط و فتور..بين يأس وحبور.. بين شوق و رغبة..
و بين الذهاب و الإياب علني أنتشي بلمسة من أناملها.. تربيت على كتفي .. مناد باسم الدلع ..ملاعبة جدائلي برفق و كأني طفلة حالمة..وهي تلثمني بشفتين أيبسهما السقم .. و ماأحس إلا بنشوة الأمومة تعتريني في جميع جوارجي..تسألني عن أحوالي .. أسألها في صمت .. يتكرر السؤال :
هل تجوعين ؟ هل تشبعين ؟ هل ؟؟ و هل ؟؟
و أنا أترقب صوت دعائها الحنون..؟
صعب وصف هذه اللحظات .. فبقدرالألم كانت تنتابني لذة و بهجة..
و في شرود توقفت عربات القطار للحظات و توقفت معه لحظة الانتشاء لولا كوب قهوة ساخن أعادني لرؤية أقوام كأننا في يوم الحشر .. بين بائعي السجائر .. و بائعي الشكولاتة .. الكل لا يتوقف عن المشي ..يضجون ..يضحكون ..يتشاجرون ...والسياح البيض يصعدون وينزلون بأجسامهم الهزيلة و يتفاجأون لنزول المطر ..و انسحاب الشمس من أفق سماء بلادي..
هكذا مرت السنة ..نشاط وحركة دؤوبة ،،بين الوداع والتمني..
وصل اليوم الموعود .. ربما كنت من بين المحظوظات رغم بعد المسافة .. كلنا كنا نعرف هذا المصير لكن ... ما لم أكن أتوقعه أن تضيع مني أغلى جوهرة في الوجود ولما لم أنعم بعد بهدوء المكان ونشوة االمستقيل ، ولما لم أتعود على أهل الدار ...
في عطلة رأس السنة الميلادية ..استقبلتني والدتي كعادتها بابتسامة عليلة ..باشتياق جنوني..سألتني سؤالها المعتاد ، أشرت برأسي : لا .. لا .. فقط أريد أن أنام ..
بدأت أتسلل بجانبها و أصابعها تتخلل خصلات شعري كطفلة تترنح في المهد..كانت جفناي مثقلة بالسهاد .. وبعد ثوان غفوت رغم مقاومة النوم .. قلت في نفسي :ما زال في الوقت متسع لتشبع مني و أشبع منها ..
كان الجميع ملتفا حول المائدة صرخت بأعلى صوتي دون أن أحس : كيف لكم أن تضحكوا والمرأة تحتضر ؟؟
عم سكون رهيب .. الكل توقف عن الأكل بل عن الكلام .. نظروا إلى بعضهم البعض.. تسارعت الخطوات بحذر.. كانت كالملاك تنام في هدوء .. تتوسط سريرها ..نعم كانت نائمة ...
الساعة تشير إلى الخامسة صباحا حاولت أن أرفع عنها الغطاء لأتملى بوجهها الصبوح.. دَغْدَغْتُ خديها .. لعبت بأرنبة أنفها كعادتي .. تَبَسمتْ قليلا قائلة : إنه يوم ذهابك .. انسربتْ دمعة من عيني على الرغم من شموخي..بكيت بصمت قَص أجنحتي و كسر عبثي بالحياة.. مشيرة إلى أني أرفض العودة هناك .. لا يهم ...عدت أو لم أعد ...
و بشدة ألحت أن أخرج فورا كي ألحق الحافلة وهي تودعني بعينيين مطمئنتين كأنها تتحداني بكلماتها الرقيقة..طبعتُ على خدها قبلة و غادرتُ و أنا أحس بارتعاشه في بدني وكأن الموج يلتهمني حين اقتربت من لمس جسمها...
لحقت الحافلة ويا ليتني ما لحقتها ...!!!؟؟؟
في نفس اليوم خطفها القدر المحتوم هناك في الأبدية... فما بقيتْ إلا حروفي تغني لها ..و دموعي تُسكب على قبرها... و دعواتي لها بالغفران... وعطرها الذي ما زلت أشمه في قمصاني لحد الآن ...
أحلام المغربي