لم يكن صياداً.. بل موظفاً عمومياً إن كان هذا الوصف مازال قائماً.. لكنه يسلك الطريق الطويل المتعرج الذي يصل بين بيته المتواضع وضفة النيل البعيد كل يوم وقت العصر.. حاملاً صندوقه الخشبي وكيس بلاستيكي يحوي زاده القليل.. وهناك في تلك البقعة المتوارية عن القصور الوارفة يقوم باختيار مكان جلسته و يُعمل يديه في سنارته وتعليق ما يشبه الطعم في طرفها.. يطوحها في الهواء عالياً ثم يراها تستقر في الأعماق
وينتظر
يأتيه بعد قليل كوب الشاي من العجوز البعيد مع ابتسامة صغيرة لا يكاد يتبينها.. فيشير بيديه للعجوز محيياً وينفح الصبي شيئا من حافظته
لم يكن صياداً
ولم يكن يصطاد.. بل إنه لم يرغب يوماً في إخراج سمكة من تلك المياه الداكنة
إنه فقط يجلس منتظراً.. ولم يسفر الأمر أبداً عن سمكة.. لم يزد عشاؤه في يوم من الأيام عن شرائح سمكة التونة المحفوظة
لم يكن صياداً.. بل موظفاً في شركة عامة.. وظيفته ترتيب الأوراق المنتهية الصلاحية في إدارة الأرشيف.. قلما احتاجه أحد.. وقلما انتبه لوجوده أحد..بلا رئيس وبلا مرؤوسين في ذلك المكتب الرطب وحده.. حارس على الأوراق وحشراتها.. بعد ان انتقلت صوراً منها الى الحواسب.. وصار الأصل نسياً منسياً
لم يكن عمله حقيقياً.. كان حضور كانصراف.. أو إبحار في يم يهلك أيامه بلا طائل
ولم يكن بيته حقيقياً.. كان بيت مؤجر ببناية قديمة.. تطالعه أحذية المارين في الحارة الضيقة عندما يطل من شباكه الواطيء
ما الذي كان حقيقياً فيه؟! لا يمكن التكهن بذلك
تطول جلسته حتى يوشك النيل على ابتلاع الشمس في أحشائه.. أو بالأحرى تبتلعها تلك القصور الوارفة على الضفة الأخرى.. لكن ذراعه يهتز بعنف لأول مرة ويدرك أن هناك صيداً علق بسنارته بلا طعم حقيقي.. يتعجب.. لقد أمضى وقتاً طويلاً ليصل لتلك البقعة الخاوية من أي صيد
يقف حائراً..خائفاً.. ينظر حوله كأنه يستنجد بأحد ما يؤازره في لحظة حقيقية لم يمر بها من قبل.. يشعر بثقل السنارة وتلاعبها بين يديه.. يطيل الحبل ولا يجذبه إليه مانحاً صيده فرصة الإفلات والنجاة.. يزداد الثقل على ذراعه النحيل فينقل السنارة من ذراع إلى آخر آملاً في انفلات الصيد ونجاته من الموت
يشعر بثقل ماء النيل كله يرتكز على طرف سنارته.. يوشك ان يفلتها ويُلقي بها .. ولكنه يثبت للحظات.. وتتشبث قدماه على الأرض فيشعر صيده يحاوره.. ولا يجد بداً من لف الحبل تجاهه في قوة لم يعهدها بنفسه بعد أن شعر بأن الصيد يكاد يجذبه ويلقيه في الماء
يخرج الصيد إلى الهواء.. لا يتبينه.. فقط يجذبه إليه بعد أن بدأ الظلام يتسلل إلى المكان.. يقترب الصيد ويدركه الرجل.. يبتسم.. يضحك.. يقهقه عاليا وهو يسحب الصندوق الحديدي العالق.. يتلقفه بين يديه ويضعه على الأرض الطينية بين قدميه.. يداعب القفل الصديء بقدمه ويسهم طويلاً.. يفكر عما قد يحتويه.. يبتسم مجدداً ابتسامة باهتة..لعلها ابتسامة زاهدة
ثم ينشغل الرجل في فض الإشتباك يين سنارته والصندوق
ينجح في ذلك ثم يطوي سنارته في مكانها بعناية ويتناول كيسه البلاستيكي الذي يحوي طُعما زائفاً.. ويرحل.. مُلقياً نظرة لامبالية على ما حملته إليه المياه الداكنة