أُنْثَى السَّرَابِ
بقلم / ربيع بن المدني السّملالي
رَأيتُ الْبَارحةَ فِيمَا يَرَى النّائِمُ أنّي خَطَطْتُ رِسَالةً لأُنْثَى لم تَرَهَا عَيْنَايَ قَطُّ ، كَانتْ جَمِيلَةً كَجَمَالِ الْمُقَنَّعِ الْكِنْدِي ، مُشْرِقَةً كَالشَّمْسِ ، مُضِيئَةً كَالْقَمَرِ ، بَرِيئَةً كَالْمَلاَئِكَة ، طيّبَةً كَالْمِسْكِ ، مُثْمِرَةً كَالرَّبِيعِ ، لاَمِعَةً كَالذَّهَبِ ، شَاعِرِةً كَتُمَاضِر ، مُبْدِعَةً كَالْعُمَرِي ، حَلِيمَةً كَالأحْنَفِ ، زَاهِدَةً كَأَبِي بَكْرٍ ، مُتَوَرِّعَةً كَابِنِ دِينَار ، عَابِدَةً كَالْعَدَوِيّةِ ، فَصِيحَةً كَالْجَاحِظِ ، طَبِيبَةً كَابْنِ النَّفِيسِ ، صَارِمَةً كَابْنِ الْخَطّابِ ، فَقَيهَةً كَالشَّوْكَانِي ، عَرِيقَةً كَفَاس ، نَاقِدَةً كَابْنِ رَشِيقٍ ، وفَنّانةً كَليُونَارْدُو دافتشي....
وهذَا نصّ الرّسَالةِ :
حَبِيبَتِِي :
أَكْتُبُ إِلَيْكِ الآنَ وَقَدْ ابْتَلَعَنِي اللَّيْلُ ، وَفِي اللَّيْلِ يَصِيرُ لِلْحَيَاةِ طَعْمُ الْخُلُودِ..
مَهْمَا حَاوَلْتُ أَنْ أَكْتُبَ لَكِ عَنْ مَشَاعِرِي نَحْوَكِ التي يَطْفَحُ بِهَا قَلْبِي ، وَيَمْتَلِئُ بِهَا وِجْدَانِي ، وَعَنْ أَحَاسِيسِي الّتِي تسْكُنُنِي ، فَلَنْ أَسْتَطِيعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً ، فَإِنَّ الْكَلِمَاتِ تَفِرُّ مِنِّي فِرَارَهَا مِنْ غَرِيمٍ ، وَالْعِبَارَات الّتِي تُوَفِّيكِ حَقَّكِ تَنْفَلِتُ مِنِّي انْفِلاَتَ السَّمَكَةِ مِنْ يَدِ الصَّيَّادِ ...ضَاعِتِ الْمُفْرَدَاتُ كَمَا ضِعْتُ أَنَا وَسَطَ بُحَيْرَاتِ أَحْلاَمِي وَدُنيَا آمَالِي ...
إلاّ أنّني أستطيعُ أن أُصَارِحَكِ بِأنّنِي أَصْبحْتُ مُصَاباً بِكِ ..
سَتَظَلِّينَ شَامِخَةً فِي ذَاكِرَتِي فِي أعْمَاقي ووجِدانِي كَتِمْثَالٍ إِغْرِيقِيٍّ ...رَاسِخَةً كَجَبَلِ أُحُدٍ ...وابْتِسَامَتُكِ الْمُشْرِقَةُ الْمُتَفَتِّقَةُ مِنْ شَفَتَيْكِ الْقُرْمُزِيَتَيْنِ فِي قَاعِ نَفْسِي تَلُوحُ كَبَاقِي الْوَشْمِ فِي ظَاهِرِ الْيَدِ ..
كَرَّتْ بيَ الذّكْرَى عِنْدَمَا كُنْتُ ضَائِعاً مَعَكِ فِي أَحَدِ شَوَارِعِ مَدِينَةِ النّسْيَانِ ، تَحْتَ شَجَرَةِ السنْدِيَان ..وَأنتِ تَهْمِسِينَ بِهُدُوءٍ نَاعِمٍ وَعُصْفُورٌ من عَصَافِير الكَنَارِي يُزَقزقُ فوقَ رُؤُوسِنَا : لَوْ جَازَ لِي الْخِيّارُ سيّدِي لَمَا اخْتَرْتُ مِنَ الدُّنْيَا غَيْرَ النَّعِيمِ الّذِي كُنَّا نُمَنّي النَّفْسَ بِهِ ، فَصِدْقاً أنْتَ مَوْئِلِي الدَّافِئ ومَلاَذِي الآمِنِ...والله كُلّمَا رَأَيْتُ بَرِيقَ الأملِ الْمُشعّ مِنْ عَينَيْكَ النّاظِرَتَيْنِ إِلَى زُرْقَةِ السّماءِ الصّافيةِ الْمُزَرْكَشَةِ بشَمْسِ الْغُروبِ شَعَرْتُ بِسُفُنِ أَحْلامِي تَمْخُرُ عُبَابَ قَلْبِي وَدَوَاخِلِي ... وأحُسُّ بِنَفْسِي تَعِيشُ فِي أحضَانِ فِرْدَوسٍ من السّعادَةِ وقدْ قَلَبَتْ لِلْعَالَمِ الْخَارِجيِّ ظَهْرَ الْمِجَنِّ ، وَأَنَا جِدُّ نَشْوَى بالانْعِتَاقِ ، بالارْتِيَاحِ ..وَقَدْ زَالتِ الْكُلْفَةُ بَيْنَنَا وَاسْتَحْكَمَتِ الأُلْفَةُ ...وإنَّ الدُّنْيَا منْ غيْرِ الرّبيعِ لاَ تُسَاوِي ذَرَةً مِنْ رَمَادٍ ..
لاَ بَارَكَ اللهُ فِي الدُّنْيَا إِذَا انْقَطَعَتْ ...أسْبَابُ دُنْيَاك مِن أسْبَابِ دُنْيَانَا
ثُمّ تقولِينَ :
دَعِ الأيّامَ تفعل مَا تَشَاءُ ...وَطِبْ نفساً إذا حَكمَ الْقَضَاءُ
غَالِيَتِي :
كُلّمَا تَذَكْرتُ هَذِهِ الْهَمَسَات وَتِلْكَ الأيّام الذّاهِبَة الّتِي قَضَيْنَاهَا مَعاً أتَنَفّسُ بارْتِياحٍ ، وأكَادُ أخْرُجُ مِنْ جِلْدِي جَذَلاً ...ولاَ أَنْفَكُّ أُعَلّلُ النّفْسَ بِالآمَالِ أرقُبُها ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لتَعَفّنَتْ رُوحِي واختَنَقَتْ ، ولَذَهبَ بيَ الضّيقُ كُلَّ مَذْهَبٍ ...ولأصْبَحْتُ فِي عِدَادِ الرِّجَالِ الْحَزَانَى ، بلِ الْمَجَانِين ..
فَأنتِ عَزِيزَتِي النّورُ السّاطعُ الّذِي أَشْرَقَ فِي لَيْلِي الْبَهِيمِ الألْيَلِ ..
الزَّهْرةُ الْوَحِيدةُ الّتي تَفَتّحَتْ فِي أيّامِ خَرِيفِي أَنْتِ ..
أَنْتِ السَّعادَةُ الّتِي تتَمشّى فِي عُرُوقِي وأنا أكتُبُ إلَيْكِ الآنَ ، مُعلِناً مُصَرّحاً عَنْ بَعْضِ مشَاعِرِي وَأحَاسِيسِي ...
.....
فَهَذِهِ كَلِمَاتِي ..
ذِكْرَيَاتِي ..
عَلَّهَا تَبْقَى عَلَى الأيّامِ رَمْزَ الْعَواطِفِ ...
فأسألُ اللهَ عَزّ وجَلّ أنْ تَجِدَكِ رِسَالَتِي فِي جَنَةٍ فَيْحَاء مِنَ الْحَيَاةِ الطّيّبة الّتي تَلِيقُ بِمَقَامِكِ ..يَخرُّ لَهَا الْبُؤسُ صَعِقا ..
والسّلامُ عَلَيكِ ورَحمةُ الله
انتهت
16 / 05 / 2012