شَفَقُ الغِيَاب
شعر/ عيسى جرابا
29/3/1426هـ
أستاذي الشيخ محمد بن ناصر الحازمي أستاذ فاضل غرست يداه غراس الحب والخير ؛ فأينعت أجيالا وأجيالا تدين له بالفضل , وتذكره به , كنت أحدث نفسي بزيارته بعد طول عهد , ولم أكن أعلم بأن الموت يحدثه حتى اخترق خبر وفاته سمعي , ومزق قلبي أسى وحزنا , فسبق الشعر شعوري في مرثية لا أزعم بها أنني وفَّيت حقه , ولا حق مشاعري , ولكنني أردت من باب الوفاء أن تظل هذه القصيدة مما يحرض على الترحم عليه , والدعاء له بالمغفرة ما بقيت تروى , رحمه الله رحمة واسعة , وأسكنه فسيح جناته... ( إنا لله وإنا إليه راجعون ).
قَطَعَتْ عُرَى قَلْبِي ثَلاثَةُ أَحْرُفٍ
قُدَّتْ مِنَ الشَّفَقِ الـمُضَرَّجِ بِالغِيَابْ
تَصْطَكُّ فِي سَمْعِي فَأَعْيَا لا أَعِيْـ
ـهَا وَالذُّهُوْلُ لِكُلِّ جَانِحَةٍ خِضَابْ
مَازِلْتُ فِي زَمَنِ التَّهَجِّي إِنَّمَا
عَزَّتْ ثَلاثَةُ أَحْرُفٍ وَالفِكْرُ شَابْ
أَجْتَرُّهَا حَرْفاً فَحَرْفاً دُوْنَ جَدْ
وَى وَالسُّؤَالُ يَجِيْءُ مِنْ بَعْدِ الـجَوَابْ
أَوَ مَاتَ؟ وَانْدَلَعَتْ ثَلاثَةُ أَحْرُفٍ
لَهَباً عَلَى لَهَبٍ يُذِيْبُ وَلا يُذَابْ
مِيْمٌ مُنَى ثَكْلَى وَمَكْلُوْمٌ تُبَـ
ـرِّحُهُ مُفَارَقَةُ الأَحِبَّةِ وَالصِّحَابْ
أَلِفٌ وَأَيْنَ الإِلْفُ؟ لا رَوْضٌ زَهَا
مِنْ بَعْدِهِ كَلاَّ وَلا القُمْرِيُّ آبْ
تَاءٌ تَلُفُّ وَتَحْتَوِي كَالقَيْدِ خَا
صِرَةَ الصَّبَاحَاتِ النَّدِيَّاتِ العِذَابْ
أَوَ مَاتَ؟ وَا لَهَفِي عَلَيْكَ كَأَنَّنِي
فِي غَيْهَبِ الأَحْلامِ أَفْتَرِشُ الـحِرَابْ
وَيَلُوْحُ طَيْفُكَ كَالسَّنَا فِي عَيْنِ مُشْـ
ـتَاقٍ يَفِرُّ مِنَ العَذَابِ إِلَى العَذَابْ
وَأَعُوْدُ نَحْوَ الأَمْسِ أَسْتَبِقُ الـخُطَى
عِقْدَيْنِ وَانْتَفَضَ الـمُعَنَّى حِيْنَ قَابْ
وَأَرَى مَلامِحَ تَنْثُرُ الأَنْوَارَ تَعْـ
ـبَقُ بِاليَقِيْنِ هُنَاكَ فِي زَمَنِ الطِّلابْ
وَالذِّكْرَيَاتُ تَمُوْرُ بَيْنَ جَوَانِحِي
وَيَكَادُ يَنْكَسِرُ العُبَابُ عَلَى العُبَابْ
عِقْدَانِ وَكَّافَانِ تَخْتَالُ الفَيَا
فِي فِيْهِمَا أَلَقاً وَيَفْتَرُّ اليَبَابْ
قَبَّلْتُ طَيْفَكَ حِيْنَ لاحَ تَعَزِّياً
وَشَمَمْتُ فِي قَسَمَاتِهِ فَحْوَى عِتَابْ
أَبُنَيَّ وَانْسَكَبَ اليَتِيْمُ وَغَصَّ بِالـ
ـحَرْفِ الأَلِيْمِ وَلَمْ يَزَلْ رَهْنَ انْسِكَابْ
أَبُنَيَّ وَاشْتَعَلَتْ طُيُوْفٌ وَانْطَفَتْ
وَتَدَحْرَجَتْ حُرَقُ الـمُجِيْبِ وَمَا أَجَابْ
وَامْتَدَّ صَمْتٌ وَاسْتَفَاقَتْ لَوْعَةٌ
جَزَّتْ نَوَاصِي البَوْحِ وَارْتَجَّ الـخِطَابْ
أَبَتِي وَيَرْوِيْنِي النِّدَاءُ فَلا تَلُمْـ
ـنِي إِنْ مَـلأَتْ الكَـأْسَ مِنْ شَهْـدِ الـحُبَابْ
أَبَتِي وَمَا أَحْلاهُ لَحْناً كُلَّمَا
رَدَّدْتُهُ فِي مَسْمَعَيَّ زَكَا وَطَابْ
مَا أَضْيَعَ اللَّحَظَاتِ حِيْنَ تَرَكْتُهَا
تَنْسَلُّ دُوْنَ لِقَاكَ وَالـحَسَرَاتُ صَابْ
أَوَ مَاتَ؟ دَوَّتْ فِي الـحَشَا كَالبَرْقِ وَاهْـ
ـتَزَّتْ رَوَاسِي العَقْلِ وَاخْتَنَقَ الصَّوَابْ
نَادَيْتُ شَوْقاً يَا مُحَمَّدُ وَالأَسَى
مُتَحَفِّزٌ وَرِيَاحُهُ تَحْثُو السَّرَابْ
أَتُرَاكَ تَسْمَعُنِي؟ لَعَمْرِي إِنَّ مَا
بَيْنِي وَبَيْنَكَ بِضْعُ أَشْبَارٍ تُرَابْ
جَلَّ الـمُصَابُ وَعَبْرَتِي مَجْرُوْحَةٌ
مَا لِي سِوَى العَبَرَاتِ إِنْ جَلَّ الـمُصَابْ
بُشْرَاكَ هَذَا الـجَمْعُ تَجْتَمِعُ القُلُـ
ـوْبُ عَلَى هَوَاكَ وَتَسْتَحِثُّ نَدَى السَّحَابْ
أَنَا مَا رَثَيْتُكَ بَلْ رَثَيْتُ مَشَاعِرِي
وَالـخَطْبُ مُنْقَضٌّ عَلَيْهَا كَالعُقَابْ
كَيْفَ العَزَاءُ وَلِلفَجِيْعَةِ سُحْنَةٌ
مُسْوَدَّةٌ وَالأُفْقُ مُلْتَحِفُ الضَّبَابْ؟!
دَفَنُوا فُؤَادِي قَبْلَ دَفْنِكَ وَالنَّوَى
سَهْمٌ أَصَابَ مِنَ الـحُشَاشَةِ مَا أَصَابْ
يَا رَاحِلاً ذِكْرَاكَ نَبْضٌ لِلحَيَـ
ـاةِ وَلِلَّيَالِي أَنْجُمٌ تَلِدُ الثَّوَابْ
وَرَحَلْتَ وَالقَلْبُ العَلِيْلُ طُمُوْحُهُ
جَازَ الفَضَاءَ وَحُلْمُهُ غَضُّ الإِهَابْ
تَكْفِيْكَ فِي الدُّنْيَا يَدٌ مَرْفُوْعَةٌ
تَدْعُو وَقَلْبٌ لَيْسَ بَيْنَكُمَا حِجَابْ
هَا أَنْتَ تَتَّشِحُ البَيَاضَ مُرَفْرِفاً
تَغْشَى مُحَيَّاكَ البَشَائِرُ بِالـمَآبْ
يَا رَبِّ بَلِّغْهُ الـمُؤَمَّلَ جَنَّةً
وَافْتَحْ لَهُ يَا رَبِّ فِيْهَا كُلَّ بَابْ
يَسْقِيْكَ صَوْبُ الغَيْثِ سَحًّا مَا شَدَا
طَيْرٌ وَمَا ارْتَفَعَ الأَذَانُ عَلَى القِبَابْ
لَوْلا يَقِيْنٌ تُعْمَرُ الدُّنْيَا بِهِ
لَهَوَتْ حُطَاماً ذَرَّهُ عَصْفُ الـخَرَابْ
وَعَزَاؤُنَا فِي الـمَوْتِ أَنَّ سِهَامَهُ
تُصْمِي فَلا شَيْبٌ يَحُوْلُ وَلا شَبَابْ