الرتبة في النحو هي الموقع الأصلي الذي يجب أن يأخذه اللفظ داخل الجملة بالنسبة للألفاظ الأخرى المرتبطة به بعلائق نحوية تركيبية . فالأصل في الجملة الفعلية في اللغة العربية مثلا : فعل و فاعل ثم مفعول به، و الأصل في الجملة الإسمية مبتدأ ثم خبر ...وهكذا ، حيث تلعب الرتبة دورا أساسا في تحديد الوظائف النحوية في اللغة العربية .
غير أن هناك استثناءات تخرج فيها هذه الرتبة عن الأصل الموقعي إذا كان هناك ما هو أولى من احترام الرتبة . و بتعبيرآخر هناك عوامل تؤثر في البعد الموقعي للفظ ، فتكون سببا في الخروج عن الأصل ، لأن القواعد النحوية العربية تتسم بالمرونة ، ولولا مرونتها لجمدت التراكيب ولكانت اللغة على وتيرة واحدة ولانتفت الإبداعية داخل اللغة ، و لعل هذا كان من أسباب موت الكثير من اللغات ، و صمود العربية و إعجازها الذي استمدته من إعجاز القرآن الكريم .
لكنّ تجاوز القواعد الأصلية للألفاظ ـــ فيما يتعلق برتبة كل واحد منها ــ ينضبط بقواعد وضعها النحاة في منع أو إجازة تقديم وظيفة نحوية على أخرى :
- كمنعهم مثلا تقديم خبر إن و أخواتها على اسمها .
- ومنعهم تقديم الحال على عاملها إلا إذا كان فعلا متصرفا : إذ تعتبر جملة {قائما هذا زيد } غير مقبولة نحويا ، لأن عاملها ليس فعلا و ليس متصرفا .
- ومنعهم التصرف في الجملة التعجبية بتقديم أو تأخير لأن فعل التعجب غير متصرف ولا يصاغ منه مضارع و لا أمر ....إلى غير ذلك من الأمور التي قعّد لها النحاة في مسألة التقديم و التأخير.
و ظاهرة التقديم و التأخير إحدى الآليات التي وظفها القرآن الكريم لتحقيق انسجامه الصوتي ، كما تُعد مراعاة الفاصلة القرآنية من أهم العوامل التي يفسَّر بها عدول القرآن الكريم عن الأصل :
وسأمثل ببعض الآيات القرآنية التي وظفت فيها آلية التقديم و التأخير مراعاة للفاصلة :
* قال عز وجل : ( واجعلنا للمتقين إماما) الفرقان ٧٤ ، حيث أخر ما حقُّه التقديم وهو لفظ "إماما" الفاعل في المعنى أو المفعول الثاني لفعل "اجعلنا" حفاظا على فاصلة الألف الممدودة التي تطبع سورة الفرقان .
* وقال سبحانه أيضا : ( إن كنتم للرؤيا تعبرون ) يوسف٤٣ ، فنلاحظ تقديم المعمول "الرؤيا " على العامل " تعبرون " مراعاة لفاصلة النون الساكنة التي سارت عليها سورة يوسف كلها تقريبا .
* وقال تعالى : (والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى ) الأعلى ٤ ، "فأحوى" تعني "مخضرا"، و "الغثاء " هو ما يحمله السيل من أوراق الشجر اليابسة .فأُخر ما حقه التقديم وهو اخضرار النبات وقُدم ما حقه التأخير وهو اصفرار النبات و يُبسه .
هذه بعض الأمثلة عن ظاهرة التقديم و التأخير في القرآن الكريم كإحدى الآليات التي استخدمها القرآن الكريم ليخلق تلاؤما و تناسقا صوتيا يناسب الحدث والسياق و المقام، و يبلِّغ مضمون الرسالة و يحدث التأثير المقصود في المُتلَقِّي