هذا مقال جميل قرأته في العدد الأخير 565 من مجلة الوعي الإسلامي منذ أيام ، واليوم عنّ لي وارتأيتُ ونحن على أبواب العيد أن أنقله لكم أحبّتي الكرام ...فهو فعلا يستحق القراءة ...
واختيار المرء قطعة من عقله تدل على تخلفه أو فضله
ويعود العيد!
ويعود العيد، ليلقي بظلاله على العالَم أجمع، مسلمِه وكافرِه، مؤمنِه وفاجرِه، إنسيِّه وجنيِّه... ولينشر شذاه وعبيره عبر الأثير، فيحتفي مَن اهتدى، ويحار مَن أعرض عن طريق الهدى.
ويعود العيد، وقد سقطت عروشٌ ودُكَّت جيوش، وعزَّ قوم وذلَّ آخرون، وفقرت عوالم وفُتنت أخرى، ومات بعضٌ منَّا وأهلَّت عيونُ بعضٍ... الشمس لاتزال هي ذات الشمس، والقمر هو نفس القمر؛ ولا شيء تغيّر إلا عند بني البشر.
ويعود العيد، ومِن الناس مَن آمن وعمل صالحًا، ورضي بما قدَّر الله له واجتهد فيما قدَر، وأخلص النية لوجهه الكريم وصبر، وجدَّ في المسير وما ضجر... ومنهم- والأسف ملءُ الجوانح- مَن أعرض واستكبر، وجاهر بالمعصية ولم يستح مِن خالق ولا مخلوق، ولم تنفعه العبر، فلم يثنه عن غيّه مرض ولا موت ولا فتن.
ويعود العيد، لنقول للجميع: «عيدكم مبارك، وكلُّ عام وأنتم والأمَّة الإسلامية بخير»؛ ذلك أنَّ العيد يدفعنا إلى قصد الخير وفعلِه، ويرفعنا بالروح الإيجابية وإحسان الظنِّ بأهله، ويعلّمنا كيف نكره الكره، ونبغض البغضاء، ونفتح خندقا بيننا وبين الشحناء والرعناء.
ويعود العيد، لينحني الولدُ أمام أمِّه يرسمُ قُبلة على جبينها البلَّوري، ويلقي التحية على والده يقبِّل كلتا يديه الماسِيتين، ويأوي الزوج إلى سِربه بعد طول غياب، ويسافر الحبيب إلى حبيبه بأغلى التضحيات والأثمان... إنه عنوان الألفة بين القلوب، ودليل الرحمة المهداة من ربِّ القلوب.
ويعود العيد، ثم يُطوَى مِن الأفق كلُّ شيء، في أقرب من لمح البصر: التعبُ والإنفاق، اللباسُ واللحم، السرورُ والتواصل، الابتسامةُ والكلمة، البشرُ والأضاحي... كل شيء يختفي، فلا يبقى سوى «الأجر»، و»المثوبة»، و«القبول» عند الكريم المنّان القائل: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (الحج: 37)، والقائل بيانًا لهذا: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف: 46).
ويعود العيد، وما لنا وللمتنبي، فحال عيدِنا هنا كحاله هنالك، والعيد عيدٌ في مكة أو في دار السلام، في «مالبورن» أو في «ساندياغو»، في الجزائر أو في مدينة الإسلام... إذِ التكبير تكبيرٌ، والمساجد مساجد، والمآذن مآذن، والصلوات صلوات، والحبور حبور.. كل ذلك عند الله سواء، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة: 27).
نعم، بميزان الأرض تختلف العوالم والمعايير والاعتبارات، لكن بميزان السماء لا فرق ولا فضل، إلا بمقدار القبول والرضا؛ فالمتَّقي هنا مَرْضِيٌّ، والفاجر مطرود؛ وهنالك لا يشفع شافعٌ لعاصٍ، ولا يجحف مجحف حقَّ مُطيع.. فهل نحن واعون، معتبِرون، عالمون، عاملون؟!
ويعود العيد، وقد عاد... وسيعود... وشريط البشر يمرُّ كطابور طويلٍ، يشرع فيه المولود وهو الأخير في الصف، ثم- بعد أمدٍ- يختفي إذا جاء أجلُه وحلَّ يومُه، بموت عاجل أو آجل.. كيفما كان السبب، وأينما كان المكان، وحيثما حلَّ الزمان.
طابور طويل.. طويل.. غير أن بعضًا من الناس، سيكونون يومها سُعداء بالقرب من الخلاَّق ومِن رحمته؛ فلا يشعرون إلا وقد غُمروا بريحان الجنان، وهم يتمرغون في سفوحها، ويطعمون أشهى ثمراتِها، ويسمُرون مع أطيب خِلاَّنها.
أما الآخرون.. آهٍ من الآخِرين.. فحالهم أبلغ من كلماتي، ومآلهم أسوأ من أن تدرِكه أوصافي!!
ويعود العيد، ونحن- فرادى، ومِن معهدنا، ومن أكاديميتنا، ومن أوطاننا، ومن عالمنا- نحيِّي كلَّ أخٍ، وصديق، ورفيق، وعالم، وعامل، ومخلِص، وصادق، ومجتهد، ومجاهد، وصابر، ومثابر... في أيّ مصر كان من العالم، وفي أيّ عصر وجِد في الوجود.. ونقول للجميع: «جمعَنا الله في رحمته، وأظلَّنا بظله.. بعد أن يُرينا نصرًا ونصرة للمؤمنين، وفجرًا وميلادًا جديدًا للمتقين، ويومًا ومصيرًا حقيقًا لديننا الحبيب: الإسلام».. ويومَها نقول جميعًا، ونردِّد: عيدكم مبارك.. مبارك.. مبارك.
د. محمد بابا عمي
أكاديمي جزائري