لم استطع الانفلات من غواية هذه القصة الطويلة على حد تعبير أنور المعداوي، حيث أنها شطحت في الزمن كرواية، ولكنها لم تألُ جهدا في اختزاله وتكثيفه كقصة، إنها اللص والكلاب، والتي لم أقرئها يوما على إنها التخريج الأدبي لقصة سفاح الإسكندرية محمود أمين سليمان. رغم اعتراف محفوظ أن مُحفزات القصة كانت بمطالعته للحادثة على صفحات الأهرام.
لست أدري يقينا، فلقد كانت المرة الأولى التي اهتدي فيها لمقولة فلسفية درسناها عن الجدلية، وإن كنت قد ذهبت لما هو أبعد منها للثنائيات الجدلية المعكوسة التي تؤسس انهيارا لشخوص، بذلت جهدا كبيرا لأن تبدو متوحدة مع قناعتها وأهدافها، لكن هيهات أن يحدث ذلك، فالفرق واضح بين المبدأ ووجهة النظر. بل ولمست فيها وعيا قد يبدو متطرفا حال قراءتها قراءة تفكيكية أو تكاد، فالشخصيتان المحوريتان يحملانِ لقبين قد تأسسا على المثنى، سعيد (مهران)، ورءوف (علوان)، وبسبر غور شخصية كل منهما نجد أن المسألة ربما خرجت عن الطوق، فلكل منهما ازدواجيته، وهما معا تجسيدا مؤلما لازدواج الأيدولوجيا نفسها، أو بالأحرى صراع النظرية والتطبيق، إذا جاز لنا أن نسميه صراعا، فرءوف علوان الطالب الجامعي اليساري بدا في ثوب النظرية، العدالة الاجتماعية المفتقدة، في مواجهتها للرأسمالية المتوحشة، وانسحاق الإنسان، وهذه العبارات في حقيقة الأمر من السهل إدراكها في مفكرة أي يساري مخلص، بطول الأرض وعرضها.
سعيد مهران العامل البسيط الكادح(البوليتاريا) طموحات عريضة، وواقع ظالم لا يحقق الحد الأدنى منها. طابت نفسه لمقولات اليسار ممثلا في هذا الـ علوان، لكن تفاعلت دراميات حياته بما لم يكن منه بدٌ، وانتهى به الأمر كقاتل مُطارد، وعلى الضفة الأخرى من النهر، صار "علوان" صحفيا مرموقا، وفي وضع اجتماعي مختلف بالكلية عما كان، وقت كانت المفكرة حاضرة بقوة كيساري عتيد. والغريب أن محفوظ كان يكتب كي يؤسس مفهوم الجدلية كما يراها كدارس للفلسفة؛ لذا لم يغادر القصة قبل أن يمنحنا يقينه الخاص في علاقة النظرية بمنظومة السمات الشخصية لمعتنقيها، فمن السهل أن تتحدث عن اليسار ومشروعه بإخلاص نادر مادمت قد انتميت واقعيا للمعسكر المعني بالعدالة الاجتماعية كفكرة جوهرية في الأطروحة ذاتها، لكن مفاهيم الإزاحة والإقصاء حال تغير الوضع الاجتماعي، أو الصعود إلى حظيرة طبقة مغايرة{ البرجوازية}- مثلا- يكشف إلى حد بعيد أن الأفكار من السهل أن تفقد معياريتها ما لم تُؤصل بإخلاص يشبه إخلاصك القديم لها، وقت كنت معنيا بتفاصيلها، وهنا تتبلور جدلية الإيمان بالفكرة ذاتها، بمعنى هل نحن يساريون لأن أطروحة اليسار نفسها مثالية إنسانية تبتغي عدالة اجتماعية مفقودة؟ أم إننا يساريون لأننا مع استسلامنا لمركبات القهر الطبقي، قد تولدت لدينا كراهية متطرفة لمعسكر الأغنياء؟
في حقيقة الأمر بدا محفوظ، وكأنه ينتج حكم قيمة حيال إجابة سؤالين من الممكن أن يكون النص قد طرحهما، لأن القصة لم تؤسس إشكاليتها على ضوء صراع حقيقي بين اليسار والرأسمالية يمكن رصده بوضوح داخل المتن السردي، وإنما صراع اليسار مع نفسه، بين الخطوط العريضة للمُفكرة، والواقع المعني بها، لذا من المكن رصد صراع كاره ممتعض بين ممثل النظرية، ومن آمن بها واتبعها، حال تغيرت المعطيات التي كانت تبلور الإيمان بها في وقت سابق، لذا لم يتسامح أو يتعاطف "علوان" مع ما آلت له ظروف "مهران"، بل وفي إشارة عبقرية لهذه الازدواجية أو الفصام في الحقيقة، يشير"رءوف علوان" أن "سعيد" قد أخطأ عندما رأى فيه شبها ممن كان يتحدث عنهم في الماضي كممثلين للرأسمالية المستفزة الظالمة. بل أن عودته بقصد سرقته، لم تكن لتحقيق العدالة المفتقدة التي علمه إياها، وإنما حقد واضح على الرجل في مرحلته الجديدة.
ربما لم يشر"محفوظ" بوضوح لمؤشرات يمكن اعتبارها استشرافا لسقوط مفكرة اليسار أو اضمحلالها، وإنما الصدق يحتم علينا الاعتراف أن الرجل يشير بطرف خفي لآفة هذه المفكرة إذا لم يتم تأصيلها بعيدا عن مؤثرات السمات الشخصية للمتحدثين باسمها، أو تحصينها ضد التحولات، فالطبيعة المثالية التجريدية للأفكار لا تتسق بأي حال مع أي مركب لعوار نفسي أو اهتزاز رؤيوي، وألا فقدت الأفكار طبيعتها المعيارية كأدوات للضبط التنظيري من جهة، وفقدت فاعليتها مجتمعيا، وبالتالي ولاء المنتمين لها من جهة أخرى.
في اقتحام "سعيد مهران" للحضرة الشريفة، وجلسة الذكر في طريق هروبه من الشرطة التي تتعقبه، ولجوءه للشيخ، لجوء الباحث عن نجاة من تفاصيل ظالمة، كان الصراع حديا جدا، لحديث لا يضبط إيقاعه إلا دخان البخور المتصاعد، الذي لا يثبت جلال الذكر، بقدر ما يثبت أن الدين أفيون الشعوب حتى في ظل هذه الظروف الفارقة، التي تبحث للرجل عن نجاة الآن، وليست النجاة المؤجلة التي تدعوه للسماء مباشرة، والشرطة على بعد أنفاس من "سعيد".
أحيانا أصاب بعارض كراهية، إزاء كاتب يلجأ لبعض الحيل الأدبية التي تثبت فكرته، من فرط خوفه من أن لا تصل للقارئ كما يريد لها أن تصل. مصادرة مبدئية -ربما- على عدم فهمنا لنواياه. لذا كنت اعتقد في كثير من الأحيان أن مشهد الحضرة، وشيخ الطريقة كانا للتأكيد على معنى يدخل ضمن أطروحة اليسار، ولاسيما في تخريجاته الماركسية. وهنا أعني الدين الأفيون، والغريب أن اليسار المصري تحديدا قد مر بمنعطفات مهمة وفارقة، لكن يظل السمت الأبرز والأكثر ثباتا، لن أقول ضدية حاسمة للدين، بقدر ما هو عدم ثقة في كون الدين صالحا لأن يكون مكونا أيدلوجيا. وأذكر على سبيل الجملة الاعتراضية أن سألت أخي شوكت- رحمه الله- مباشرة كونه يساريا.. هل أنت كافر؟ وكنتُ وقتها أبني مواقفي على تعليقات صديقه المقرب(ح.م) الذي كان كثيرا ما ينزلق لتأويلات مستفزة لا تستثني أي مقدس، ويومها قال لي: أنا مختلف، ولا ينبغي لي قبول الأفكار بشهادة المنشأ. وهذه أزمتي الكبرى مع (ح.م) وغيره.
إن شواهد اللص والكلاب وما انطوت عليه من ظواهر نصية دالة، قد تضرب حال قراءتها الآن الكثير من الأنساق المعرفية والأيدلوجية، قد يراها البعض نبوءة، أو إشارة لأزمة يسار قد طال أمدها، فللصدق، فإن اليسار لم يؤصل نفسه منذ فترة، ربما لأسباب يُسأل عنها اليساريون أنفسهم، وكذلك لما لمسناه في ثنايا الطقس العام الذي أحاط بكل الاتجاهات الفكرية عموما، ولاسيما في أزمنة السيولة خصوصا في الثلاثين سنة الأخيرة. لكن تظل عبقريتها أن هذه الجدليات الثنائية مازالت مطروحة بامتياز، بل واتخذت أشكالا أكثر ثراءً وضبابية في آن. ولأن الأزمة في جوهرها تأصيل، فلا أقل من الانصياع خلف السؤال.. هل نحن في زمن الأيدولوجيا؟
بطبيعة الحال لا ينبغي للمرء وخصوصا في هذه الفترة أن ينتج حكم قيمة، ولا أن يؤسس الفكرة، وإنما يؤسس علاقته بها، لأن الأفكار مع تطاول الزمن قد تنتحل سمت الحقائق التراثية، فمؤكد قد مات ماركس، ولكن الجدلية نفسها لم تمت، إذن فجمود فعل التأصيل قد انسحب ظلما على المشروع اليساري وغيره من المشاريع الأخرى، وبظلم متعمد من الذين كان لزاما أن يؤصلوه، بل حتى مع التسليم بحدوث شذرات عابرة من تأصيل، فلقد جاءت من حظيرة هي بالضرورة خارج المشروع نفسه، بمعنى أن الرأسمالي قد سلخ من اليسار ما يخفف به توحشه، واليسار بدوره قد وضع حدا لرفضه القديم للاقتصاد الحر إجمالا، شريطة الحفاظ على مفاهيم العدالة، وحقوق الإنسان. وهذا في حد ذاته إما أنه إقرار باستحالة التطوير من الداخل، أو اعتراف بتماهي الأيدلوجيات في بعضها البعض، في إطار عملية تجميع لتراث فكري إنساني بالأساس، بغض النظر عن هذه التقسيمات الاصطلاحية. لكن حتى هذا المعنى في الحظيرة العربية لا أراه متحققا بوضوح، لأن بغياب فعل التأصيل لا نغتال علاقتنا بالمشروع الواحد وحسب، وإنما نقوم بتعطيل الرغبات المُخلصة لتلمُس المشتركات الفكرية بين المشاريع المختلفة.
إن "رءوف علوان" ربما سقط في مغبة إنتاج حكم قيمة شوَّه من خلاله الأغنياء إجمالا في يقين "سعيد مهران"، بالشكل الذي ارتبط عند الأخير بكونهم ظالمين، أو مستهدفين من مفكرة الأول، لذا لم يستطع أن يغفر ثراء "علوان" بعد ذلك، وربطه بمعايير الكفاءة والكفاح كمعنيين مُعطلين. وهذا المعنى وإن انطوى على تخريج أحادي للنظرة، ولكنه يؤسس لقطبية المجتمع، الذي قد يعاني تشرذما معينا من فرط عدم قبول فكرة الاستثناء في المعسكر المواجه للطرح اليساري نفسه، والذي قد تكون مكونات الثروة فيه، ليست غالبا على جثث الكادحين ممن هم على شاكلة "مهران"، و"علوان" قبل الطفرة. فلا يمكن على سبيل المثال وهذا المعنى جدا خطير، أن ننسى "توليستوي" والذي طبق الشيوعية من قبل أن توجد، وفي إطار جدلية عكسية ليست مهتمة بانتزاع الحقوق، بقدر ما تهتم بإعادة الحقوق لأصحابها من وجهة نظره. لذا فإن منظومة السمات الشخصية هي التي تحدد يقينا قيمة الأفكار المتبناة، الأمر الذي قد يخلق مقارنة ربما لم يسع واحد من أطرافها لأن يعقدها. ترى من أكثر فاعلية: شيوعية توليستوي أم شيوعية ماركس؟ وخصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تولستوي يناضل للفقراء، وماركس يناضل بالفقراء، وهنا مكمن الجدلية، التي لا تقل بأي حال عن أي جدلية فكرية لا تتسق مع الحد الأدنى من أهدافها.
إن الرهان على الآخرة يحمل ضمنيا إقرارا بأن هناك ثمة ارتباكا رؤيويا حيال المشروع الإسلامي كأداة فاعلة لتنظيم الطرف المضاد لفكرة الآخرة ذاتها، وهنا أعني الحياة الدنيا نفسها، لذا فمحركات الجدلية الإسلامية هي الدنيا والآخرة بامتياز، فإما إنك مؤمن بضرورة أن ينظم الإسلام الحياة، وبنجاح؛ كي يستحق الالتحاق بالآخرة، أو إننا نعيش مجرد مقدمات لا فائدة منها؛ كي ندرك آخرتنا في النهاية.
إن غرائبية هذا السؤال هل أنت يساري لأنك- فرضا- تكره الأغنياء، وسلفيا لأنك يقينا لست مشغولا بالدنيا، مسألة مربكة فعلا. لأن هذا المعنى في حظيرة الإسلام، ربما لا يؤذيه كأطروحة يصر أصحاب المشروع الإسلامي على أحقيتها لإدارة أزمات الواقع، وإنما يضر جوهر الدعوة نفسها، وكأنك غير معني باكتساب أتباع جدد، أو النضال كي تثبت بلاغة التأثير بمعتقدك، وهنا تتساوى حركتك وفاعليتك مع يقين اليهود في انغلاق دينهم عليهم، ومن ثم يسقط يقين المسئولية المتجه لإبلاغ الناس عن الله.
إن الذين أطلقوا البخور كي يذكروا الله في خلوتهم يطلبون مددا وغوثا يخاطب أي زمن؟ اللحظة المعيشة، أم لحظة لقاء الله للحساب؟ وآليات دفع الظلم الحادث على الأرض لو ظلت مؤجلة إلى حيث نلتقي بالعناية وجها لوجه، ربما تؤسس لنظرة تجعل من الحياة مرحلة بالغة القتام. بل قد تغري ضعاف الإيمان بالاعتقاد أن الله قد خلق العالم وتخلى عنه، مما يضر أصلا بفكرة القيومية التي هي جزء أصيل من مفردات قدرته.
إن نجيب محفوظ ربما لا يريد الطعن في تابوه مقدس، بشكل قد يغري بأنه يقينا يعتقد كما يعتقد الماركسيون أن الدين بالفعل أفيون، لكن ربما يسأل عن إيجابية رجل الدين حال تعرض لموقف يستلزم أن يدلي بدلوه في مسألة دنيوية للنخاع، فلأي سماء سيلجأ رجل لا يفصله شيء عن الشرطي الذي يطارده. بل يمكن الربط هنا بين الشيخ و"عليش" الذي خان "سعيد مهران" فـ "عليش" اسم قد يبدو بلا معنى، لذا ظل خارج إطار أي نسق ثقافي أو معرفي، ولا علاقة له بالأطر الفكرية التي تضمنتها القصة، والشيخ بصوفيته خارج إطار الزمن، وهنا قد يكون علوان ومهران معا في أرجوحة بين الواقع الأرضي الذي لا يحوي سوى اللص والكلاب، والسماء التي يختبأ فيها الشيخ. والسؤال.. من يستطيع ضبط هذه المسافات المرتبكة؟
إن الرأسمالية هي النظام الأكثر فطرية في الحقيقة، والمتسق مع كون الناس مختلفين في المواهب والمقدرات، والشيوعية وافد جديد يريد إعادة توزيع الثروة وفق قواعد العدل، فمن سينتصر: النوازع الفطرية للتملك وإحراز الثروة، أم الصدام المحتمل من وافد يريد تحقيق عدل باهظ التكاليف؟ ولو سلمنا يقينا بانطواء المشروع اليساري على ما يؤيد مثاليته، فلِم يعاني أزمة وجود في يقين أصحابه، وفي إشكالية تفاعلاته المجتمعية كمشروع إنساني بامتياز. وعلى الضفة الأخرى من النهر من المسئول عن تجميد الإسلام بالشكل الذي يجعل من مسألة إدارته لأزمات المجتمع قد تبدو كفكرة عبثية، وكأنه غير معني أصلا بهذه المسألة. إن هذه القصة إذا لم تكن تشير تصريحا بانسحاب الأيدولوجيا وتراجعها، فإنها حتما تشير لعوار النظريات، فلا يمكن لليسار أن يُختزل هذا الاختزال المجحف كي يصبح طرحا مضادا لطموح الأغنياء، والإسلام كمشروع لن يكون بأي حال ممارسات طقوسية تمهد الناس للالتحاق بالآخرة بلا منغصات. وإن حدث ذلك؛ فعلى الجميع أن يعترف بخروجه من التاريخ طوعا أو كرها، أو بسقوط الأيدولوجيا.