فتى المعرّة
أعرف أنكم ستقولون حدثنا عن رحلتك الليلة إلى شاطئ النخيل .
أنا في موسم رمضان أعتزل الناس , وكيف أعتزل الناسَ وأنا إمامهم في المسجد ؟! لكني أحاول جاهداً أن أنفردَ بالقرآن , وكيفَ وأنا مصابٌ بعادة الكتابة والمطالعة التي لا شفاء منها ولا براءة .. ؟!
طلعتُ الجبيل , قلت : إنَّ السيارة تحت التدريب ,فلتكن طلعة تدريبٍ إذن ! لا يوجد في الدنيا شاطئ شاعريٌّ, وشاطئٌ غير شاعريّ . لكن شاطئ النخيل في الجبيل من ماء العيون , وخلجات الأرواح , ووساوس الماضي , وصور الحب والغرام .
شاطئ مأهولٌ وإن كان خالياً ! هكذا تحسُّ .. تحسّ صوتا متألِّهاً قريبٌ بعيدٌ منك , أمامك خلفك من فوقك , من حولك .. لا تدري ! البحرُ فيضُ سحابةٍ بكَّاءَةٍ فارقت الأهل والدار ! وجملةٌ من أغاني الطبيعةِ مطلولةٌ بالعشب , مخبوءةٌ في ذرات الهواء , مرشوشةٌ على الأشجار .. بحرٌ تُحبه كما لو تُحب الحديث عن نفسك .. تشعرُ أمامه بالرغبة بالبكاء كأنك في محراب الحياة ساجدا لله .
كان البحرُ الذي أقف أمامه الليلةَ مظلم النفس , منكوب المزاج على غير العادة . ما هذه الرهبة والجلال اللذان يكتنفان روحي ؟؟!! أغلقتُ على نفسي باب السيارة ,وأشعلتُ النور , وكأنَّ هاتفا من الداخل يهتف بي ملتفَّاً بالسواد :
كم بلدةٍ فارقتُها .. ومعـَاشرٍ .. يُـذرون من أسفٍ عليَّ دموعا
انطلقتُ مذعورا خارج السيارة .. لم أتبيـّن مصدرا .. الظلامُ الدامسُ في كل مكان , وبعضُ سياراتٍ مضيئةٍ تتراءى ليَ كالنجوم من بعيد .
الموجُ يسحبُ في هدوءٍ , كأنَّ البحرَ يهزهُ كالطفل لينام .. جزعتُ على سيارتي فهي قربَ الماء تماما . قبل أن أبادر بفعل شيء , كانت ضرباتُ قلبي تسمع خارجه , كالمُهـْرِ المُرَوّع .أحاول أن أجمع نفسي قليلا لأفكر .. لفحةٌ من هواءِ البحر جافة رطبة . ماهذه الليلة يارب ؟! عاد الصوتُ قوياً لكنهُ هذه المرة كان حزينا مكلوما :
الأمرُ أيسرُ ممَّـا أنت مُضمرُهُ .. ولا يَهِـمّكَ غـِربـِيبٌ إذا نـَعِبـَـا
وَقَرَ الصوتُ في صدر الكون , فأخذ الكونُ من حولي يردد : نـَعِبـَـا .. الأمر أيسرُ مما أنت مضمرُهُ ... مضمرُهُ .. وتتشعب في روحي : نـَعِبـَـا .. قلتُ جازما في نفسي : إنُ هذا الشعر أجنبيٌّ عنا ! فزماننا هابطٌ عن مستوى لغته وأسلوبه وتركيبه . من يعرف في زمان كهذا معنى غِربيب ؟! ولولا أني أحفظ عن ظهر قلب أيام المدرسة لفظة نَعِبَ الغرابُ مافهمت الغاية ؟ من أي عصرٍ هو ؟ رحتُ متسائلا أزفرُ في الهواء , لكني ألقي باللائمة على تراثنا الأدبي , إذ لا يوجد فيه مثل هذا البيت . ألا يكون هذا البيتُ روحا شاردا من دفتر قديم لي ؟,فلما صادفَ مني روحا شاردا يشبهه زارني ؟؟!! لكني لستُ نائماً . هل أنا نائم ؟ امتدت لحظات الزمان هذه في نفسي حتى كأنها دهر .. ثم تبيّنَ لي أن هناك شاخصٌ إليَّ قرب صخرة من تلك الصخور , أخذتُ أدنو شيئا فشيئا منه , أشعرُ أن شيئا ما يدفعني إليه بقوة , وأنّ شيئا ما سيحدث لي , ومع ذلك فقد شعرتُ ببعض ارتياح , بدأ يخفّ الحِملُ قليلا , وأخذتْ ظلالُ الشك مني تنزاح إلى السواد من البحر في العمق ..
كان هذا الشخصُ المتمترسُ هناك يُتمتم بأبياتٍ , وهو ينظر إليَّ تارة ,وإلى البحر تارة :
إذا كان رُعبي يُورِثُ الأمنَ , فهوَ لي ..أسَرُّ من الأمنِ الذي يُورثُ الرعبا
قلتُ : لقد ألقى إليَّ بحبل النجاة , ودخلتُ منه في جوار .. والعرب لاتخفر الجوار . لما أنست نفسي قلت لها : لمَ لا أحفـِّز خيالي علّ فكرة أو خاطرة فأنفِّسَ عن جواي , وأخرجُ من جُحرِ الضَّبِّ هذا . فلما تبينتُ ملامح وجهه , أقسم لقد رأيتُ .. رأيت عجبا .. كأني أعرف هذا الشخص جيدا ! لقد رأيتُ فيهِ صورةَ نفسي .. نعم , رأيتُ فيه عقلي وتفكيري ووجهي . هل يخطئ المرءُ نفسه ؟؟ اتسعت حدقات عيني في الظلام الدامس . فلما رآني أشاح بوجهه عني , فكرهتُ أن أكون ثقيل الظل , سيء الخلق . بادرته بالسلام فبادرني بأحسن منها , جلستُ جواره لا أرى وجهه إلا لمحا ً . أوحت إليّ هيئته أنه يجلس على مثل الجمر , يريد أن يبثَّ نجواه لبشرٍ مثله .. ما أمضَّ أن تفقدَ أحدا من جنسك ولونك ! لكنه لا يريد أن يتكلم .. مرَّ الوقتُ ببطء , وهو على هذه الحالة يدعوني إلى استماع الموج الوادع . فقلتُ ممتثلا :
دهرٌ يَكُـرُّ , ويومٌ مَا يمُـرُّ بِنـَا .. إلاَّ يزيدَ بهِ المعقولُ تخبيلا
فقال وقد انتفضَ في مكانه كالكهرباء :
تنسّكَ الأسـَدُ الضِّرغامُ وابتكرت .. جَآذِرُ العينِ آسَـاداً رآبيلا .
- أتحفظُ شعرَ فتى المعرة ؟ قلتُ متفاصحاً .
- أنا فتى المعرة يابني ..
التفتُ إليه , فبرقت من عينيه دمعتا أسَفٍ اخضلت بهما وجنتاي! حاول دون جدوى أن يتجلد أمامي ..
- ألم تمت ؟
- وهل نبيُّ الحياةِ يموت ؟!
كنتُ أمرُّ بِقَدرٍ لا أملك دفعه , وقد غشيتني منه سحابةَ حزنٍ قاتمة .. رأيتُ المخرج في قلمي , ولكنَّ قلمي كأبي حاتم لا يبيض ! خنجرٌ مغروزٌ في روحي .. لا هوَ يقضي عليّ فأموت , ولا هو ذَوْبٌ متآكل !! يموتُ الأديبُ غريبا تكافئه أمته بالجنون ! حالتان أعيشهما في هذه الليلة : الكفر البواح , والإيمان المحض ..
سَهِدَ الفتى لمطالبٍ ما نالهـا .. وأصابها من بــاتَ ليس بســاهدِ
فهو الزمان قضى بغير تناصفٍ .. بين الأنامِ وضاعَ جَهدَ الجَـاهـدِ
وأنا أكزُّ على أسناني , بادرني معلقا على تلك الأبيات بابتسامة حزينة:
وإني رأيتُ الصَّعبَ يَركبُ دائما .. من الناس من لم يركبِ الغَرَضَ الصَّعبا
- ماذا تقول ؟ أهناك من يصبرُ صبري ؟!
كنتُ أكلمه بصوتٍ مرتفع منفعل , وكان منسوبُ المياه يرتفع رويدا رويدا , وقد تداخل في الماء ظلي وظله , فصارا شيئا واحدا .. نظرتُ حولي فلم أجد شيئا ً .. لقد غابَ عني فجأة ,وكأنَّ طائراً من عقلي طارَ إلى الماء .. ساعتها ظلَّ الماءُ يرتفعُ إليَّ كأنه يريد ذلك عنوة .. يبدو أنَّهَ يَريد أن يبثَّ شيئا , لم أستطع أن أدنو منه أكثر, قمتُ إلى سيارتي , وفي نفسي ذكرى جديدة .
الكاتب / طارق السكري
السعودية - الدمام
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
24/9/1433هـ