عقيدة بلا عقيدة ..
من المخاطر التي تواجه الطالب الجامعي في تخصص الشريعة دراسة المختلف من الآراء في علم من العلوم قبل أن يستوعب الطالب العلم نفسه ..
فمثلاً في إحدى كليات الشريعة في جامعة الموصل تُدرس كتاب ( دراسة في السيرة ) للدكتور عمادالدين خليل في المرحلة الأولى ، وهذا الكتاب يبدأ أولاً بمناقشة المستشرقين والرد عليهم ، ثم يدخل في تفسير السيرة النبوية ودراستها ، لكن من غير الدخول في تفاصيل الأحداث ، بل عرض وتحليل للهيكل الأساسي المتفق عليه لأحداث السيرة النبوية كما صرح بذلك المؤلف في مقدمة كتابه .
ولذا يصطدم الطالب الذي لا يملك في اغلب الأحوال إلا نزراً يسيراً من المعلومات في السيرة ، يصطدم بأسماء المستشرقين وشبهاتهم والردود عليها ، مما يسبب سوء فهم عند الطالب إن لم نقل عدم فهم ، وكان الأحرى أن تأتي هذه الشبهات والردود بعد أن يلم الطالب بمادة السيرة أولاً بتفاصيلها وجزئياتها ، لكن ما يحدث هو العكس .. وإلا ـ يتساءل الطالب ـ فمن هو ( كيتاني ـ مونتكمري وات ـ فلهاوزن ـ آرنولد توينبي .. الخ ) ، وماذا تعني هذه الشبهة أو تلك وما هي قصتها أصلاً ؟ وأسئلة كثيرة تتعقد في ذهن الطالب عندما يبدأ المنهج التعليمي ببناء الحائط قبل الأساس ، وخاصة بوجود أساتذة ذي معلومات متواضعة ..
واجهتنا المشكلة ذاتها في دراسة العقيدة في المرحلة الثالثة ، فقد بدأ المنهج معنا مباشرة بالخلافات الكلامية والجدلية التي حدثت بين الفرق الإسلامية في وقت مبكر من تاريخ الإسلام ، وضعنا وسط أفكار ومصطلحات وألغاز ، قبل أن نفهم العقيدة الصحيحة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم .
لقد كان حري بالكلية أن تضع مادة العقيدة في المرحلة الأولى كونها الأساس والأصل في الدين الإسلامي ، وتقدم للطالب العقيدة الصحيحة أولاً ، بعيداً عن الخلافات والنزاعات بين الفرق والمذاهب ، حتى إذا استوى سوقه وتمكن من المادة انتقل إلى مستوى آخر من الدراسة ..
لكن الذي حصل ويحصل أن الطالب يُواجه مباشرة بالخلافات والمصطلحات الغامضة ، والذي قرأ علم الكلام يعرف مدى غموض مصطلحاته وأساليبه وكأن القوم كتبوه حتى لا يفهمه أحد غيرهم !
وبذلك يغرق الطالب والأستاذ بل ودارسي العقيدة عموماً في بحر من الجدل الكلامي والنزعة الفلسفية والنزاعات المذهبية ، بعيداً عن مقاصد العقيدة ، وصفاء الإيمان ونقائه ووهجه وحضوره الفاعل في الحياة .
فيغدو بذلك علم العقيدة علماً ليس له تأثير في واقع الناس .. علماً لا ينتج عملاً .. بل كلاماً وجدلاً فقط ..
فيتساءل المرء أين ذهبت تلك العقيدة التي فتح بها أجدادنا البلاد شرقاً وغرباً ، العقيدة التي وقف بها ربعي بن عامر أمام رستم وهو يطأ بفرسه طرف بساطه قائلاً : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَتَها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام ؟
أين تلك العقيدة التي أنطق عقبة بن نافع قائلاً : لو كنت اعلم أن وراءك أناساً لخضت عبابك بسنابك خيلي فاتحاً ؟
ولم يكن يومها قد اكتُشفت أمريكا بعد ..
أين تلك العقيدة وذاك الإيمان أم تراها تحولت إلى كلام وفلسفات ؟
ألم يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأ القرآن ما ائتلفت قلوبنا فإذا اختلفنا أن نقوم عنه ؟
ألم ينهنا عن النزاع وضرب آيات القرآن بعضها ببعض ؟
أين ذلك المحرك العظيم الذي بنى أعظم حضارات الإنسان باعتراف الأصدقاء والأعداء ؟
الإيمان .. العقيدة ..
لا أذكر أني خرجت يوماً من محاضرة العقيدة وقد زاد إيماني !
ما الذي حدث ؟
أم صارت عقيدتنا بلا عقيدة !